الثلاثاء، 1 ديسمبر 2020

قراءتهِ في نص الاستاذة الشريفة كريمة الحسيني بقلم الأديب صاحب ساجت/العراق

 تحيةٌ طيبةٌ...

أبهرني نص بديع للاستاذة (الشريفة كريمة الحسيني)، و عَمدْتُ على قراءتهِ بتأنٍّ و رويَّةٍ، عَلِّي أَقدم بتواضعٍ بعضَ مفاتيح المتعة لقاريئي النص..
الكاتبة:-الشريفة كريمة الحسيني/تونس
عنوان النص:- تائهون
القراءة:- صاحب ساجت/العراق
ما هو التيه؟
إسطورةٌ تتحدثُ عن أصلِ بني اسرائيل، وردتْ في عدة أسفار تحكي عن معاناة إستعباد بني اسرائيل في مصر الفراعنة.
و معنى "التيه" في اللغة العربية:- ضلالةٌ و حيرة و ضياع في أرض ذات ممرات، لا علامةَ فيها يُهْتَدىٰ بها، يسير فيها المرء دون ان يجدَ منفذًا للخروج منها.
{قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ ۛ أَرْبَعِينَ سَنَةً ۛ يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ ۚ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} ( المائدة- 26)
هنا الآيةُ الكريمة تتحدثُ عن التَحَيُّر في طريق الأهتداء، و "يتيهون" تعني "يتحيَّرون"، بحيث لا يدري التائهُ أين يُقيمُ، و لا إلى أينَ يتوجهُ؟ نتيجة الحيرة و الضلالة. و سُمِّيَ المتكبرُ تائهًا على وجه التشبيه، لانه لا يدري حقيقة نفسه.
تحليلُ النصِّ:-
اولًا:- العنوان "تائهون"...
تائهون.. متحيِّرون، ضالّون في مسيرة حياتهم. و هؤلاء 'التائهون' جيلٌ بين جيلين في دورة حياة البشرية، و ما هم عليه من صفات و عادات و تقاليد لا يَدومُ، فيأتي 'التيهُ' ضرورةً حتميةً لفصل مرحلة تأريخية عن أخرى، من سماتها ضياع التفكير و التدبير، مع محاولات فشل متكررة، يتولَّدُ عنها صراعات عبثية و فوضوية، يتناحرُ فيها الٕانسان مع أخيه الإنسان نتيجة الحقد و الظلم الذي يزرعه المتسلِّطون.. إلى أن يُسْحقَ و يُهْلكَ جيلٌ كاملٌ، دون معرفة ذلك، بسبب الضلالة!
تظل مرحلةُ التيهِ، مهيمنةً حتى مجيء جيلٍ ثالث، يُولدُ من رحمِ المعاناة، يَستشعرُ المشكلةَ الحقيقية، و يأخذ مِعْوَلَ التّغيير و يبدأ بالبناء الأفضل، بدءًا من الذات و تربية الأبناء على قِيمِ العدالة و المساواة و التسامح.
ثانيًا:- بيئةُ النّصِّ...
تأخذنا المأساة أحيانًا إلى عالم غريب، بَيْدَ اننا سرعان ما نألفه، كوننا نشعر بالغربة حتى في أوطاننا!
فــ " الغنىٰ في الغربة وطن، و الفقر في الوطن غربة!" علي بن أبي طالب كرم الله وجهه.
و ذلك سلوك مرتبط ببيئة الإنسان، و الوطن هو ما يحقق الشخصية و الكرامة للإنسان، و ليس الأرض فحسب!
فلا وطن مع الفقر، و لا أمان في عيش بلا وطن حقيقي. و هذا ما نلمسه لدى الشعوب المغلوبة، حبيسة السياسة و السلطة القمعية.
" كل شتاء
نحتاج ان نجلس
في حديقة عمومية
على مقعد خشبي..."
عمر الانسان فصول.. مختلفة الأجواء، و منها شتاءُ العمر!
و هذا لَعَمْري.. يدعونا إلى:-
مراجعة الذّات، و لَمْلَمة الشتات، و البحث عن تَزْجيَة السّاعات، من الأيام الباقيات! نبحثُ عن صديقٍ أو جارٍ طيّبٍ، أو أجواء نقيّة في الريف أو في واحاتٍ سياحية!!!
النصُّ لا يبدأُ هكذا دون مناسبة؛ إنَّما يدعونا إلى البحث عن وطن/حديقة عامة، يضمُّ داخله ناس يحملون سِمَةَ المواطنة.. يَحلمُون بحقوق، بعد ما أنفقوا زهرةَ حياتهم في سبيل ازدهاره وبناءه، و لا ضيرَ إن كانت راحتهم و جلوسهم على "مقعد خشبي"! تكدّسَتْ عليه و حواليه، حكايات و ذكريات مِمَّن سبقهم، ثُمَّ تتوالى الأمنيات و يتضوَّعُ عطرَها مع أجواء المطر- و ليس الغيث- و تمتزجُ مع الطين- بدلًا من بساطٍ أخضر، و حدائق غَنَّاء، و حقول عامرة بالثمر!
على' المقعد الخشبي' يُبَدَّدُ الرَّوعُ، و تَتَسلّل الطمأنينة إلى النفوس عوضًا من عواصف المِحَنِ والفِتَنِ الساخطة على الوطن.
ثالثًا:- الشخصياتُ...
تناثرتْ أجسادٌ هنا.. و هناك، هَمُّها ان تعيشَ يومها بالإسلوب الذي تختارَهُ، لا أن تتمرغَ في وحل الذّل و الهَوان و الضياع في متاهةٍ لا حَدَّ لها، إلّا بفنائهم.
"أشخاص تائهون
في الشوارع
مبعثرون!"
انها بانوراما سوداويةٌ، يرى القاصي و الداني شخوصَها...
أوّلَهم:- هيكلٌ عظمي حملته عِكّازته، على صورة شيخ، كَدَّهُ التعبُ و قَهرُ السنين، لقمةُ العيش تتسربُ من بين شقوق يَده المتيبسة! لم يجدْ ما يُعينَهُ و يَأْويه!
" ما انصفتموه.. استعملتوه حتى أذا كَبُرَ و عَجزَ تركتموه...اِجروا له من بيت المال راتبًا". هكذا قال الخليفة الراشد الرابع، عندما رأى شيخًا نصرانيًا يَتكفَّفُ!
ثانيَهم:- كَوْمَةٌ من الهُمُومِ،يتصاعدُ منها دخان مبخرة تأبى الخفوت، طالما هناك من يتصدق عليها (مَلالِيم) زهيدة، تُقدِّمُ لها أصابع الدّاء القاتل، لتَنفُثَ سُمَّ دخانٍ من بين فكّين منزوعة الأسنان!
ثالثَهم:- جسدٌ مخمورٌ، يتقلبُ في بُرَكِ الأمطار، يَتوسّدُ نديمَهُ، و سميرُ خَيالاتِهِ.. قنينةٌ من عصير الكرم المُعَتَّقِ!
رابعَهم:- يافعان.. لا يَلويان على الحياة يومًا إلَّا و هما يعيشان ساعة لقائهما، يتبادلان القُبَلَ و الهمسَ و أطرافَ الحديث، بعيدًا عن الأنظار، مثلَ طيورِ الحُبِّ!
فجأةً.. يثورُ بركانُ غضبٍ، يُطوِّحُ بهما إلى طَرَفَي نقيض،يتخاصمان خصام الألدَّاء.. قطيعة، هجران، لوعة!
لماذا؟!
ربما لم يتمكنا ان يُكملا نصفَ دينهما، أو تجهيز ليلة زفافهما، و ربما...
"بلادي و ان جارتْ عليّ عزيزةٌ
و أهلي و إن ضَنّوا عليّ كرامُ"
(قتادة بن ادريس الحسني القرشي ١١٣٢-١٢١٩ ميلادي، و يُنسبُ الى عدة شعراء آخرين!)
أمّا الشخصيةُ الأخيرةُ فهي " أنا! "...
هذه الــ' أنا' دافَتِ المِلْحَ بالجُرْحِ!
صدمَتْ قارئ النّصِّ بالأسى، لا يَقوى على كَظمِ غيضهِ أو كَفْكَفَتْ دمعهِ، و هو يقرأُ:-
"أرقبُ روحَ إبني
تصعد للسماء..."
مشهدٌ تراجيديٌّ أَطَّرَ صورةً مُفعَمةً بالعواطف، لإثارة انفعال حاد و شديد، انفعال ألم، لن ينتهي إلّا بالموت الزوآم!
لان الٕابن.. له مكانةٌ عالية، لو غادرها..
لا بُدَّ من تطهير النفس بعاطفتي الخوف و الشفقة عليه.. مثلًا!
هذه التراجيديا.. بدأتْ بقصة تركيب أفعال و تصرفات، محاكاةً للموقف المرسوم سلفًا بكلمات، و لشخصيات مرّت قبل الــ' أنا '، قامتْ بالفعل التراجيدي الذي ختمته الشاعرة بشخصية (الأنا و الإبن)!
لنتخيل هذا الٕابن، و هو يتوسّد غيمةً و ينامُ- قريرَ العين- بعيدًا عن أمه و أبيه، في عالم آخر، خالٍ من البلاء و الأذى الأرضي.. ماذا ترك لوالديه و هما يتابعان صعود نفس زُهِقَتْ بلا ذنبٍ؟!
الجوابُ:- هل ثَمَّ شيءٌ غير قشعريرة بَدَن يرتعدُ من هَول المأساة، و عَظُمِ البَلايا و الرَزايا!!!
"فنهضتُ
و تركتُ المقعد لغيري
يستريح"!
هذا هو قرارُ شخصية النص الأخيرة، و بكل مسؤولية تسلِّم مقعدها/الوطن إلى جيل آخر، بعد أن تاهت في مفازات الوطن، بلا جدوى! و شبعتْ ضياعًا و حيرةً- حَدُّ التُخمة- لِتَلْحقَ بِفَلذَّة كَبْدها، و تتوسّد غيمةً أُخرى!
لغةُ النّصِّ:-
حملتْ لغةُ النص الحسَّ و الشعورَ الوطني، بأبهى صوره، و بتوجهٍ سياسي نقدي لواقعٍ مزري، مشبعٍ بعالم الصّور و الأَخيلة، و كلمات ذات معانٍ شفافةٍ، تُوحي بجمال فني راقٍ، يبرزُ دقةالوصف و التعبير، باسلوب سَلس و سَهل مُستساغٍ، دون تعقيدٍ، أو تلغيز!
نجحتْ كاتبةُ النص- أيُّما نجاح- في كشف أفكارها دون غموض، أو ضبابية، و كتبت بلغة تناسب موضوعها أوّلًا، و ثانيًا ذوق المتلقي..
من خلال رصدها إلى محطات في حياة شرا ئح مجتمعية، نقابلها في حياتنا اليومية.. وَ وَضْعَها مرآةً عاكسة لمعاناة الحَيرة في البحث عن مُمرٍّ آمنٍ يؤدّي إلى الخلاص.
أخيرًا....
هكذا تَراءىٰ لي النّصُّ، و قرأتهُ بهذا الشكل و المضمون، أرجو مَن يَجدُ ثَمَّةَ فائدةً أو معلومةً، يطوُّرُ بها قراءتي المتواضعة، بشكل خاص، و يُقَوُّمُ الٕابداع في المجال الأدبي.. بشكل عام!
بُغيةَ تنمية ذوق المتلقي و تحفيزه لان يتابع بشغفٍ و دراية ما ينتجه الأدباء و ينشروه..
كُلُّ التّقدير للإستاذة (الشريفة كريمة الحُسيني)، و نغبطُها على إبداعاتها و حرصها على تقديم أفكارها بإطار و إسلوب بديع حقًا...
يدعونا ان نثني عليها جزيلَ الثناء...
(صاحب ساجت/العراق)
النصُّ موضوعُ التعليق و القراءة:-
(تائهون )
كل شتاء
نحتاج ان نجلس
في حديقة عمومية
على مقعد خشبي.. مبلل
معطر ببقايا قصص
و ذكريات
أخذها الوقت.. و رحل
نحتاج أن نمد أذرعنا
لنحتضن المطر
والتراب يأخذه الحنين
ليمتزج بها و بعطرها.. يسكر
نحتاج ان نهدأ من روع الريح
الساخطة على هذا الوطن
و هذا الزمن
الذي يتملكه الرعب والفتن
أشخاص تائهون
في الشوارع مبعثرون...
شيخ يحمل عكازا بيد تشققت
تيبست من التعب ومعاناة السنين
تحت الحائط.. سيدة مسنة
لا تكف عن التدخين
تمد يدها للعابرين
لتشتري سجائر
تتناسي بها وجع.. و حنين
رجل سكير لم يتب
على العشب يرقد
يتوسد قنينة عصير.. عنب
في ذلك الركن الجميل
شاب و فتاة في العشرين
بعبرات الحب
يتهامسان طويلا
فجأة فقدا الرومانسية
تحول همسهما الى
سب و شتم و أذية
ربما تخلى عن وعد
أوتخلى عن قضية...
و أنا بين كل هؤلاء
أرقب روح إبني
تصعد للسماء
فتحتضن غيمة
و تنام في عالم بلا بلاء...
ارتعدتُ من الريح.. نهضتُ
و تركتُ المقعد لغيري...
يستريح!
(كريمة الحسيني/ تونس)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق