حجاجيّة الخطاب الرّوائي عند إبراهيم الكوني،
"قابيل..أين
أخوك هابيل؟"
أنموذجا[1]
المـدخـل
تعدَّدَتِ
المُقاَرَباتُ الحِجَاجِيَّة وتفرّعت مَنَاوِيلُها في
الاسْتِدْلاَلِ على أغلب ضُرُوب الخطاب، بَدْءًا من الخطابات اليوميّة ووصولا إلى
الخطابات الأدبيّة من قبيل الشّعر والقصّ، غير أنّ اللاّفت للانتباه هو يُتْمُ
الدّراسَات الحِجَاجيّة المُتَعَلّقة بالخطاب الرّوائي ظنّا مِن بعض الدّارسين أنّ
الرّوايةَ ليست خِطابا حِجاجيّا.
ومن أجل هذا نقترح دراسة حِجاجيّةً للخطاب
الرّوائي عند الأديب اللّيبي إبراهيم الكوني، "قابيل.. أين أخوك هابيل؟
أنموذجا"، والمُسوّغ لهذا البحث أمران، أوّلهما ما قدّمناه آنفا من كون
الخطاب الرّوائي ليس مَدْرُوسًا حجاجيّا دراسةً شامِلة كامِلةً، والثّاني أنّ
رواياتِ الكوني يَشُقّها ضربٌ خاص من الحِجاج، تعمّد الكوني توظيفَه في روايته
مَدَار بحثنا، ولعلّ إنشائيّة العنوان بالاستفهام خيرُ دليل على ذلك، وعطفا عليه
نقول إنّ هذا البَحْثَ هو مُحَاوَلة للإجَابَة عن سُؤاليْن رئيسيَّيْن، ما هو
الحجاج؟ وكيف تتجلّى حِجَاجِيَّةُ الخطاب الرّوائي في قابيل..أين أخوك هابيل؟
ونأتي في مَبْحَثٍ ثالث إلى قانون الخطاب
الحجاجي ؟ وننهي بأهَمّ الاستنتاجات ثم الخاتمة.
وقبل الإجابة عن
هذه الأسئلة، نحاول وضعَ رواية "قابيل.. أين أخوك هابيل؟" في
الإطار الذي ظهرت فيه مع الإشارة إلى القضايا الكبرى التي تتضمّنها.
تُعتَبَرُ هذه
الرّوايَةُ جزْءًا من مجموعة رِوَايَاتٍ تاريخيّة[2]، اسْتَنَدَ الكوني فيها كليّا إلى ما جاء في الحَوْليّات اللّيبيّة[3] من أحداث. وتتحدّث هذه الرّوايةُ عن الفترة الأخيرة من الدّولة "القرمانلّيّة"
من القرن الثّامن عشر، والتي تميّزت بصراع مَرِيرٍ دار بين أُخْوَةٍ أشقّاءَ في
سبيل الفوز بكرسيّ الحكم وخاصّة الابن الأصغر "سيّدي يوسف" الذي
ظهر في الرّواية أنّه الابن المُقرّب من الأب أكثر من إخوته. هذا الأب الذي لم يقف
وقفة حازمَةً، وعادِلَة للْحَدِّ مِنْ نَزَوَاتِ ابنه المُتمثّلة في حبّ نفسه،
وإطلاق العنان لزَرْعِ الفتنة، والاعْتِدَاءِ الفاحِشِ على الأبْرِيَاء، بل بدا
الأبُ وخصوصا في القسم الأوّل من الرّواية مُسْتهْتِرًا، مُقبِلا على المَلذّات
غير عابِئٍ بما يُحَاكُ حوله من دسائِسَ ومُؤامراتٍ، وصراعاتٍ دَمَوِيَّةٍ، وفساد
أخلاقي ومالي، مِمّا جَلبَ للمَمْلكة ضعفا في الدّاخل، ومَهَّد بقوّة للأخطار
الخارجِيَّة وخاصّة أطماع القَرَاصِنَة، مثل "علي بن زول"، وشقيقه
"القابودان باشا"، ومِمّا عَمّق الوضعَ وجعَله يبلغُ ذروتَه الدّراميّةَ
إقدام الابن المُدلّل "سيّدي يوسف" على تلك الفعلة الخطيرة، المُتمثّلة
في قتل شقيقه "حسن بك" غدْرا وهو بين يَديْ أمّه. وذلك بدافع الفوْزِ
بالسّلطة.
ويُمكنُ تقسيمُ
الرّواية بناء على هذا التّمشّي إلى ثلاثة أقسام، يَتعلّق القسمُ الأوّل
بجملة من المشاهد تعرض حواراتٍ مُتتاليةً وقعت في فترات مُتنوّعة، وتبرز جدالا بين
شخصيّات مُختلفة، جمعت بين الباشا وأطرافَ أخرى من المَمْلَكَة، مثل الأبناء،
والزّوجة، والعبد، والشّيْخ "الفطيسي"، وملكة الجالية اليهوديّة
"إستير"، وابنتها "ميزلتوب"، وخادمتها. وتَعْرِضُ الرّوايَةُ
حِوَارَات أخرى محورُها أوّلا أحد أبناء الباشا وقنصل المملكة البريطانيّة بليبيا،
وكذلك مشهد حواري ثان دار بين زوجة القنصل المسز "توللّي"
و"للاّحَلّومة"، كما كثفت الرّواية من حوارات حجاجيّة شائكة جمعت بين
سيّدي "يوسف" وأخَوَيْه "حسن بك"، وسيّدي "أحمد".
ويُلاَحَظُ في الرّواية الغيَابُ الكلّي لحِجَاجٍ مِحْوَرُه خطابٌ بين
الباشا ورعيّته. ويُعْتَبَرُ ذلك أمْرًا طبيعيّا في عصر كان الحكمُ المُطلق
فيه هو المُسَيْطر. فالباشا كان يَمْلِكُ الأرض بمن فيها وما فيها.
أمّا القسم الثّاني من الرّواية فهو شبيه
بالمُذكّرات التّاريخيّة التي تدوّن الأحْدَاثَ بذِكْرِ المَكَانِ واليَوْمِ،
والسّنة[4]. وهي أحْدَاث حَاوَلَ الكوني خلالَهَا أن يكون وفيّا لمرجِعِه التّارِيخي
وهو ما يُضْفِي على الرّوايَة صبغَةً تَارِيخيّةَ، إلاّ أنّ التّقنيَة
المُعْتمَدَة أخْرَجَت الرّوايَة من هذا السِّياق لتصْبَغها بصبغة جماليّة فنّية
تمثّلت في تقنيات الرّواية وخَصائِصها التي نَذْكُرُ منها على سبيل المثال
السّرْدَ، والوَصفَ، والموظّفة توظيفا يصلح موضوعا للخطاب الحجاجي.
ويتعلّق القسم الثّالث بإمكانيّة وضع
النصّ الحجاجيّ في إطاره القانوني كما سيتمّ توضيحه تاليا، ونأتي في قسم رابع
إلى الاستنتاجات، ثم الخاتمة.
1- في ماهية الحجاج وأهمّ خصائصه
يصعب على الدّارس أن يُحَدّد ماهية
الحِجاج[5] بِيُسْرٍ. ويَعود ذلك إلى كونه يبدو
مُتّصلا بعديد المرجعيّات والنّظريّات، منها الخطاب الأدبي، والمنطقي، والبلاغي
إلى غير ذلك من المُقاربات اللّسانيّة.
عرّفه بيرلمان
باعتماد الغاية، إذ يرى أنّه "جعل العقول تذعن وتسلّم لما يُطرح عليها من
الأقوال، أو يزيد في درجة ذلك الإذعان وذلك التسليم. فأنجَعُ الحِجَاجِ وأنْجَحُه
ما وُفّق في جعل حدّة الإذعان تقوى لدى السّامعين بشكل يبعثهم على عمل المَطلوب في
الوقت المناسب"[6]. ونقول
على لسان بعضهم إنّنا "نلجأ إلى الحجاج لنُدَافِعَ عن قضيّة أو نبرّر
سلوكا، لنُدينَ أو نَمْدَحَ، لنقف مَعَ، أو ضدّ اختيار، أو قرار[7]."
ولنْ يَكُونَ الحِجَاجُ غيرَ تلك المُمَارسَات التي يَعتمد فيها المُحاجُّ على
العَقل لإثبات حقيقة أمر ما، أو للتأثير في طرف مُقابل بغية الإقناع.
ويرى محمّد طروس أنّ
[الحجاج] يَختلف باختلاف العلاقات التّداوليّة، وباختلاف الوظائف
والمَجَالات. فقد يكون ذاتيّا حَمِيميّا، تلجأ فيه الذّات إلى حوار داخليّ لإقناع
نفسها، وقد يكون ثنائيّا يَتمّ بين فردين أو فريقين مُتقابلين..."[8].
ومن خلال بلاغة أرسطو يُمكن أن ّنميّز بين ثلاثة مُسْتويات مِن الحِجاج
[الإيثوس، والباتوس، واللّوغوس] ويَتعلّق الإيثوس بشخصيّة الخطيب، والصّورة
التي يُقدّمُها عن نفسه، ويُشكّل "الباثوس" مجموعة انفعالات
يرغب الخطيبُ في إثارتها لدى مُستمعيه [رحمة، كراهيّة، غضب، خوف...]
ويُمثّل "اللّوغوس" الحجاج المَنطقي، الذي يُمثّل الجانب
العقلاني في السّلوك الخطابي، ويَرتبط بالقدرَة الخطابيّة على الاسْتدلال والبناء
الخارجي[9].
وترجع الحُجَجُ في المستويين الأوّلين إلى مَهارات الخطيب غير اللّغويّة، وقدرته
على الـتأثير والإقناع، وإلى الاستعداد النّفسي[10].
يقول ماير عن الحجاج إنّه يُعرَّف بكونه
المجهود الذي يبذله المتكلّم في الإقناع[11]. ويعرّف الحجّة في الأثناء على أنّها
"لا تكون مقبولة شكليّا إلاّ إذا ضمّنها صدق المقدّمات وعلاقتها
بالنّتيجة"[12] "فالخطاب لا
يكتسب سِمَته الخطابيّة إلاّ مّما يَقوم به من وظائفَ، وأنّ نسيجه الوظيفي
يَتمَحْوَرُ حول الوظيفة الحِجاجيّة كوظيفة أساس، مَسْؤولة عن توليد الفعْل
الخطابي، فلا خطاب بدون [كذا] وظيفة ولا وظيفة بدون [كذا] حجاج"[13].
ويعرّفه عبد اللّه صولة قائلا :
"إنّ الحجاج لمّا كانت وجْهَتُه هي المستقبل، كانت الغاية منه أن يؤدّيَ إلى
حصول عمل أو الإعداد له. ويكون ذلك بالتّأثير في الذّهن بواسطة الوسائل
الخطابيّة"[14].
ويعرّف ديكرو وصاحبه انسكومبر (Ducrot et
Anscombre) الحجاج في مُصنّفهما "الحجاج في اللّغة" قائلين:"إنّ
المُتكلّم إذ يحاجّ إنّما يقدّم قولا أوّلَ "ق1"، أو مجموعة أقوال تقود
إلى الإذعان والتسليم بقول ثان"ق2"، أو مَجْمُوعة من الأقوال
الأخرى"[15].
ويُطابِق الأستاذ
"بيرلمان بين البلاغة والحجاج مُعتبرا أنّ المُكوّنات الأسلوبيّة الموجودة في
رسالة ما (مكتوبة أو مقروءة، أو مشاهدة، أو حتّى إشاريّة) هي عبارة عن مستويات
مُعيّنة من مُستويات الحِجَاج، أو التضمين والشّواهد والأمثلة، حتّى السُّخرية
والمُفارقة. فهْي عبارة عن "حُجّة في ذاتها وكذلك الاستعارة. إنّها استدلالٌ
قائِمٌ على المُقايَسَة المُلتفّة وبالمثل فالبلاغة لم تعد لباسا خارجيّا للحجاج،
بل إنّها لتنتمي إلى بنيته الخاصّة"[16].
ويتميّز الحجاج في تصوّر بيرلمان بخمسة
ملامح رئيسيّة:
_ أن يتوجّه إلى مُستمع
_ أن يُعبّر عنه بلغة طبيعيّة
_ مسلّماته لا تعدو أن تكون احتماليّة.
_ لا يفتقر تقدّمه إلى
ضرورة مَنطقيّة بمَعْنى الكلمة.
_ ليست نتائجه ملزمة[17]
ويضيف محمد طروس أنّ موضوع الحجاج في
القديم يدور حول التصميم المُتمَثّل في الاستهلال، والسّرد، والإثبات،
والاستطراد، والخاتمة[18].
وهي عناصرُ يُمْكِنُ الوقوف عندها في نص الرّواية موضوع مُداخلتنا.
وسنتناول في الأثناء الجانبَ البلاغي للنصّ. أيْ كيفيّة بِنَاء الحُجَج، وطرق
استنباطها وقياسها.
2 – مُقوّمات النصّ الحجاجي في "قابيل..
أين أخوك هابيل"؟، وأهمّ وظائفه
يقومُ النصّ
السّردي في رواية "قابيل..أين أخوك هابيل؟ على حوارات حجاجيّة، يُمكن أن
ُننـزّلَها في "محور الحجاج والتّواصل السياسي". تبدأ هذه الحوارات
انطلاقا من العنوان الذي بُنِيَ على تركيب إنشائي، جملة استفهاميّة، تحتوي ضمنيّا
جملة نداء، فكأنّ المُؤلّف يَتوجّه بالخطاب إلى قابيل ليقول له : "يا قابيل..
أين أخوك هابيل؟، ثمّ إنّ النقطتين المُسْترْسَلتين تقبلان عديد الإمكانات من نعوت
وغيرها، إذ يُمْكن أن يَنْعَت بأنّه مُجْرِم وقاتل.
ويُعتبر العنوان في الخطاب القديم بمثابة الاستهلال[19].
وهو على حدّ تعبير جيرار جنيت (Gérard Genette) عتبة تُمَهّد لمتن النصّ الرّوائي الذي يقوم على
الأقلّ في قسمه الأوّل من هذه الرّواية على مشاهد حواريّة مُتنوّعة، ونلمس في هذه
المَشاهِد تنويعَا في الأساليب الحجاجيّة التي جاءت على لسان الشخصيّات.
ذلك ما يبدو جليّا في الحوار الذي دار بين سيّدي "حسين بك" والقنصل
الإنجليزي لدى البلاط الطّرابلسي، وصديق العائلة القديم. عندما جاءه
"البك" ليستنجد به خوفا من بطش "سيّدي يوسف" وكان ذلك في لحظة
خوف عندما فوجئ الجميعُ بمقتل "حسن بك" على يد أخيه الأصغر "سيدي
يوسف"، ولكنّه سرعان ما ندم على لحظة الجبن التي أحسّ بها، وقرّر بعد ذلك
الخروج للمشاركة في تشييع جنازة البك مخاطبا القنصل الذي أراد منعه من المُغادرة
في تلك اللّحظات العَصيبة "قل لن يُصيبنا إلاّ ما كتب اللّه لنا !
حاججه القنصل وهو يسعى
خلفه :
_
تحتكم إلى الكتاب وتنسى الآية الأخرى التي تنهَى المؤمنين بألاّ يلقوا بأنفسهم إلى
التّهلكة؟"[20].
يبدو الجدَلُ في
هذا الحوار قصيرا ومُقنعا فالحالة النفسيّة التي كان يمرّ بها سيدي
"حسين" هي التي جعلته يفزع ويأتي إلى قصر القنصل، ثمّ إنّ عودة صوابه
جعلته يُغادر بسرعة، وإنّ الحُجَجَ التي قدّمها كانت كافية لتُقنِعَ القنصلَ خصوصا
عندما قال له : "...عليّ الآن أن أكفّر عن فعلتي بحمل نعش صديقي على مَنكبيّ
هذين لأسْتَوْدِعَه بيته الأخيرَ. وباستطاعة رجال سيّدي "يُوسُف" أن
يُكْمِلُوا عمَلهُم بغرس سيوف كيْدِهم في نَحْرِي لأنَامَ إلى جِوَارِ البِكْ
بضمير نَقِيّ[21]. ويندرج هذا الحوار
الجَدَلِيّ ضمن طريقة الوصل التي صَنّفَ ضمنها بيرلمان وتيتيكاة الحجاج[22].
ويُمْكِنُ
القَوْلُ إنّ نصّ رواية، "قابيل ..أين أخوك هابيل؟" يستجيب إلى بنية
داخليّة لا تَخرُجُ عن ثلاث نقاط هي :
أ. القضيّة : تلخيص نقطة الاختلاف،
ب. الحجاج : عرض
الأدلّة الخالصة،
ج. الجدال: مُناظرة
قصيرة مع الخصم، قد تبدأ بسؤال اتّهامي[23].
وتضمّ الرّواية،
مَوْضوعُ مُداخلتنا هذه العناصرَ كامِلة. فهي تبدأ فعلا بـقضيّة تتمَحْور
حول قتل الأخ الأصغر، سيّدي "يوسف" أخاه الأكبر، "حسن" بواسطة
حيلة جَلَبَهُ بها إلى غرفة والدته، مدّعيا الرّغبة في مُجَرّد الحديث معه في أمر
هامّ، وكان قبل الدّخول قد اعترضه الحَرَسُ وجرّدوه من سلاحه. وبعد هذه الواقعة
الأليمة والمشهد الدّراميّ، تنْبَرِي الأحداثُ تعرض جَدَلاً في الآراء واختلافا في
المواقف، وعَرْضًا مَدْرُوسًا للأدلّة قصْدَ التأثير والإقناع. فقتل سيدي
"يوسف" لأخيه الأكبر "البك حسن" خلق مَقاما للمُحَاجَجَة
ثنائيّا بين سيّدي "أحمد" والأب، "عليّ باشا" القرمانلّي
يدور حول اتّهام سيّدي "أحمد" للأب الذي بغضّ الطّرف عن مُعَاقبة سيّدي
"يوسف"، ثمّ تسليمه مسبحته دليلا على إعلان حمايته له مِمّا اقترف من
جُرْم، في حقّ الأخ الأكبر ممّا أثار استياءً، بل صدمة في نفسيّة
الابن الأوسط فانبرى يُحاجِجُ الأبَ مُحَاوِلا إقناعَه بأنّ ما يَقومُ به ليس
عَدْلا.
و"مَثُلَ بين
يديه في اليوم التّالي فوجده مُكوّمًا في عرشه كجوّال مَنفوش من القشّ. يفتح عينا
ليُغمضها ثمّ يَفتح عينه الأخرى كأنّه الثّعلبُ. وقف قبالته لحظات قبل أن يبادرَهُ
بسؤال :
- البلبلة تعمّ
المدينة يا مولاي، والفَوْضَى تسْتَوْلي على كلّ البلاد". يُقَدِّمُ هنا
سيّدي أحمد في خطابه مع الباشا قولا أوّلَ (ق.1) ثمّ يرْدِفُه بقول ثان (ق.2)
عندما يضيف ليقول لوالده : "والجميعُ ينتظر منك الخلاصَ؟" ويُعتبَرُ
الخلاصُ هنا بمثابة المَخْرَج للسَّيطرَة على وضع بدأ يَنْفَلِت، وبدأ يُهَدّدُ
المَمْلَكَةَ بالخطر.
- وواصل الإبن
حديثه عن قرار البكويّة الذي يَقضي بتنصيب الأخ الثّاني بعد موت الأخ الأكبر،
ولكنَّ الباشا ترجْرَج ببدنه في عَرْشِهِ، ومَالَ إلى الأمَامِ ليسأله وماذا
يرى "سيدي يوسف"؟، في حين أنّه من المَفرُوض أن يُسَاقَ القاتلُ
إلى المُحَاكَمَة، وأظهر إلى الأخ "أحمد" اللاّمبالاة، والسّخْريَة،
بل أوْصَاهُ بالاحتراس، ممّا جعل الابن يَرُدُّ عليه قائلا : "في
الماضي ظننّاه "يوسف" في حين ظننّاك "يعقوب"، ولم يَخُطرْ
ببالنا يوما أن تصنع منه بطلا مُكافأة له على جريمته البشعة؟
ويُواصل الردّ على
الباشا قائلا : "أنت ظننت أنّك صنعت منه بَطَلا، ولا تدري يا أبي أنّك
صَنعت منه قابيلا؟ وتزداد حِدَّة الخطاب فَيُكثّف الحجج ليقول غاضبا: "
بلى، بلى أنت صنعت من "سيّدي يوسف"، "قابيل آدم،" بل صنعت
منه، بغفرانك، "قابيل" الربّ بعد أن كان قابيل ابن [كذا] آدم؟"
ونلاحظ في هذا المقطع من الحوار تكرارا لحرف
العطف "بل" الذي يُفيد تقليب الوجوه المُمْكِنة، بغاية تقوية
المعنى، كما تمّ تكرارُ اسم الفعل "أجل" لتأكيد القَوْلِ وإثباته
حول قضيّة تستّر أب على جريمة قتل قام بها أحد أبنائه.
ويصحو الباشا من غفوته وهو على غاية من القوّة
الذّهنيّة والجسَديّة لِيُناقش ويَردّ على مُحَاجِجه، وكان يحلو له أن يُقدّم
الجوابَ وهو مُغْمَضَ العينين: - النّاسُ لا يرون في "إستير" إلاّ
ملّتها، ثُم بدانة بَدَنها، ولا يَدْرُونَ أبَدا أنّ هذا البدَنَ المُخيفَ، وهذه
العلامة الكاذبة المُسمّاة في رطانات الأمُم ملّة، ليس سوى الستر الذي يُخفِي كنزا
لو عرفوه لأكبروه أضعاف ما أكبرْته. ثم أجاب الباشا عن تساؤل الابن عن السِرّ
قائلا: "بلى. سرّ يخفي حكمة... وأضاف مُوضّحا بأنّ عداوة النّاس
لـ"إستير" هي عداوة الناس للحكمة!
(الرواية ص.. 32)
تساءل سيّدي أحمد
ساخرا :
- وماذا يُمْكنُ أنْ تقولَه سيّدة الحكمة "إستير" عن قابيل أيضا؟
"إستير"
تقول أنّ [كذا] قابيل لم يصبح قدّيسا لولا جريمَة قَتلِ الأخ! ولم
يقتنع الأب بكلّ الاستفسارات والاستنكارات التي كان سيدي أحمد يقدّمها ليقنعه فيها
بانحيازه لسيدي يوسف وغضّه الطّرف عن وجوب معاقبته بسبب ما اقترف، وأضاف الباشا
قائلا : "إذا كان "سيّدي يوسف" مُجرّد قابيل آدم قبل ارتكابه
للجرم، فتاج -على رأسي أن يَجْعل منه غفراني قابيل الربّ؟
تَمَشّى سيّدي
"أحمد" في البلاط خطوات. قال فجأة :
- أنت تريد أن
تجِد مُبرّرا لسيّدي "يوسف". هذه أحْجِيَة لتبرئة سيّدي
"يوسف". لو آمنّا بما قلت مُنذ قليل فإنّ جريمة سيّدي" ُيوسف"
جَعلت منه قدّيسا. أنت تريد أن تقنعنا بأنّ سيدي "يوسف" عرف ربّه وتنسى
أنّ القداسة رَهِينَةُ التّوبَة. أجل، أجل. قابيل لم يَفز بالعلامة إلاّ بالنّدم،
فلا تحاول يا أبي أن تخْدَعني؟[24]
وبدا الباشا طيلة
النِّقاشِ يَقظا ومُحَاوِرًا مُتمَكّنا من تقنيات حِجاجيّة واضحة،
مثل استعمال التّراكيب الشّرطيّة، والحجج اللّفظيّة، والقياس
ذي الطّابع الفلسفي...التّلاعب بالكلمات فعندما حاجه "أحمد" بشأن
البكويّة أجاب الباشا : "لو كنت أريد أن أنصّبه على العرش لفعلت.
وأجاب ابنه الذي سأله عمّا يريد قائلا : "مَنْ منّا يَعرِفُ ماذا
يُريدُ؟".
ومِمّا حَزّ في
نفس الابْنِ المُحَاجِج أنّ الباشا أنْهَى جملته،. ثمّ "سكت، ومع ذلك فإنّ
الابن لم ينته معه إلى حَسْمِ القضيّة التي جاء يُحَاوِرُه فيها وكعادته فتح عينا
وأغمض أخرى." ولم يظهر الباشا طيلة الحوار اقتناعا بحجج ابنه الأصغر، بل ظلّ
يعتمد على تبريرات "إستير"، ملكة الجالية اليهوديّة لتبرئة الابن
القاتل. وهنا يُمْكِن القولُ إنّ المَقامَ يتمَحْوَرُ حول جملة من الثّنائيّات:
تجريم وتبرئة، باطل وحقّ، ولعلّ الباطلَ يُصبح أباطيلَ، خصوصا عندما يصرّح أحمد
قائلا : "ما أعلمه أنّ أسفار "إستير" تتحدّث عن باطل الأباطيل؟
ولقد خلقت التفْرِقَةُ التي أحسّ بها سيدي "أحمد" شعورا بِخيبة الأمَل،
خاصّة وقد صارت حياتُه وحياةُ عائلة أخيه المَغدور به في خَطَرٍ، وأمام حُجَج الأب
المُتضاربة، ومُحاولته تبرئة ذمّة ابنه القاتل من دم البك انتهى الأمر بسيّدي
"أحمد" أن طلب من الباشا إعفاءه من البِكَويّة والسّماح له بالخروج من
البلاد[25]،
ولكنّه لم يُحرّك ساكنا. وتعتبر هذه النّهايَةُ في الجدال خاتمة أخرى تعبّر عن
يَأس سيّدي "أحمد" من إقنَاع الأبِ لتغيير مَوَاقفِه.
و"هكذا يأخذ الحجاجُ
داخل سياق صراع الآراء، خاصية الورود الشّرطي، إذ يُصبِح وروده، في إطار مُسْتوى
تفاعليّ، تابعا لحضور فعل آخر، ولطبيعة الحَدث اللّغوي، وللأهْدَافِ التّفاعُليّة،
والأفعَالِ التّواصُليّة"[26]. وتُـثبِتُ ردودُ
الباشا على ابنه ضبابيّةً في الأقْوَال، إضافة إلى عدم تحَمُّله مَسؤوليّة أفعاله.
قال سيدي "أحمد" وقد أغمض الباشا عينيه : الآن أستطيع أن أفهم سرّ
الخراب الذي يُحِيقُ بهذه المَمْلكة الشّقيّة منذ تولّيتم أمرها." ولكنّ
الباشا اتّخذ من هذا السّلوك عادة في التّعامل مع الأمور، وجَعَلَ مِنْ لامُبَالاته
فلسفة له في السّياسة، ومَنْهَجًا في الحياة. فهو وإن بدا لك مُغيّبا
عن الوُجُودِ، مُسْتَسْلِمًا للنّوم، مُغمَضَ العَيْنَيْنِ، لكنّه يَقِظٌ، حَاضرُ
البديهة، يُفاجِئك أحيانا بالردّ، ويُفحِمُك بالحُجّة.
3- الحجاج في رواية قابيل أين أخوك هابيل؟،
فلسفته، وأهمّ أبعاده
نفهَمُ من نصّ
الحوار الذي دار بين الأب والابن أنّ كلاًّ منهما يعي جيّدا على حدّ تعبير بيرلمان
كيفيّة الحِوار مع ذواتهما بشجاعة، وليس العكس"[27].
ويُمْكننا القولُ انطلاقا من المَقام المُخصّص لهذا الحِوَار أنّ المُتحاوِرَيْن
يتّفقَانِ ظاهِرا ولكنّهما يَختلفان من حَيْث المبدأُ. ذلك أنّ الأبَ يحذق توظيف
مُسْتَويات البرهان، والقرائن البلاغيّة بِوصفها "نقاط انطلاق للبرهنة"(Points de
départ de l’argumentation)، فكون هذه
النّقاط مُسلّما بها في الغالب أمرٌ قد يؤدّي إلى إهمال المُتكلّمِينَ لما قد
تسبّبه هذه النّقاط من تقويض للبِنَاء الحِجَاجي عن طريق الوُقوع في أخطاء
التّحريض والتّسَاخر[28].
ولذلك يُمْكنُ إدْرَاجُ هذا الحِوارِ الجَدَلي
ضمن الطريقة الثانية. وهي طريقة الفَصْل، أوعَدَم التّواصل، إذ نلاحظ أنَّ
"الحجاج فيهَا قائمٌ على كسْر وِحْدة المَفهُوم بالفصل بين عناصره المُتضامِن
بعضها مع بعض"[29]
وعندها يَستوي الحجاجُ مَبْحثا قائمًا بذاته، مُسْتقلا بها عن بقية المعايير
الكلاسيكية البلاغية[30].
ونلاحظ مِنْ خلال
هذا الحِوار غيابَ التّواصل بين الأب والابن. وذلك بسبب انحِيَاز الأب
الكلّي إلى الابن الذي قتل الأخَ البكر ظلما وغَيْرة، وتجَبّرًا، وطمَعًا
مبالغا فيه للاستيلاء على كرسيِّ العرشِ، وهكذا فالجَدَلُ في مرحلته الأولى
على الأقلّ لم يُغيّر من انحياز الباشا إلى الابن القاتل، بل لقد أعلن جَهارًا
حِمَايَته له. وهو مَوْقف بعث الرّعب في نفسيّة زوجة سيّدي "أحمد"
فخاطبت زوجها مُحرّضة إيّاه على مُغادرة المَمْلكة خوفا من بطش سيّدي
"يوسف" قائلة : "إذا لم تفرّ بنا من دنيا هذه العصابة فلن تكون
الضّحيّةُ التّاليةُ إلاّ نحن؟[31]
والمَفهُومُ من
طريقة الاستدلال هذه أنّ عدم الفرار من مكان الخطر خَطَرٌ، والخطرُ مَوْتٌ، إذن
البقاء في مكان الخطر في نظر الزّوجة موت لسيّدي "أحمد" وعائلته.
ويُمْكِنُ أن نَعْتبرَ هذا الاستدلالَ استدلالا يتعلق بعيّنة من الظّواهر.
و[تتلاحق] المَشاهد
وتتابَعُ الأحْداث، وتتّسع دائرة التّوالد، توالد اللّفظ، وتوالُدِ المَعْنَى،
إذ أنّنا نتعامل في رواية "قابيل..أين أخوك هابيل؟ مع مقولات تنتظم في مسار
حجاجيّ، تتخلّله مشاهِدُ سرديّة تتمحورُ حول موضوع التمسّك بالحكم المطلق،
وبكرسيّ العرش. ومِمَّا يزيد الوَضْعَ تدهورا أنّ الباشا لا يتعامل مع أمور
المملكة بعدل الحاكم، ولا بإنصاف الأب وحبّه، بل هو حاكم مُسْتَهْتِر، مُقبِلٌ
على مَلذّات الدّنيا إلى حَدّ الإدْمَان. ويظهر ذلك في مجالس اللّهو التي
يعقدها مع "إستير" مَلِكَة الجَالية اليَهودِيّة صحبة جَوَاريها. ولم
يُظهر حزما في تسيير أمُورِ رَعيّته، ولا في مَسْكها بقبضة مِن حديد، لردع
العابثين من القراصنة والمُتنكّرين الطّامعين في النّيل من السّلطة في الدّاخل
والخارج.
ويستعملُ الرّاوي في روايته هذه المَسارَ الاسْتدْلاَلِي، خاصية
للتقنية الحِجاجيّة التي يَرْغَبُ من ورائها في مُناقشة بعض الإشكاليّات المُتمثّلة
خاصّة في الحكم المُطلق، وفساد السّياسَة، والخصومة الحَارِقَة بين الأخوة
من أجل . تجتمع في هذه الرّواية موضوع الدّراسة قضيّة حارقة تدور حول السلطة
المطلقة، وصراع الأبناء حولها وإهمال الحاكم أن يمثّل السلطة الرّادعة، وأن
يسيّرها بعدل وإنصاف. ويجتمع في شخص السُّلطان هنا دور الأب، وواجب الحاكم، وحياد
القاضي، ولكن السّلطان تمرّد على الواجبات وأصبح منحازا في مشاعره أبا، فساهم
بنفسه في تعميق المشكل وتوسيع الفجْوَة بين الأبناء وبالتالي الوقوع في الفوضى
التي تُنْتِجُ الدّمارَ.
ويَقف المُتلقّي في هذا النصّ
الرّوائي على تضمين
للمنطق الأرسطي، أو القياس المنطقي وصولا إلى إثبات النّتيجة
الحِجاجيّة. ولعلّه ولإبراز ذلك يُكثّف الرّاوي من استعمال الألفاظ الحجاجيّة
الخاصّة مثل "حاججه"، قال بخيبة أمل، قال بسخرية، أجاب بتسليم، ترافع
البك. (الرّواية، ص ص.134-135-153-178).
فنصّ هذه الرّواية ينتمي إلى بنية لولبيّة يضمّ عديد المسائل التي يوظّفها
الأب الحاكم ليدعم بها موقفه ويقوّيه. فـ"الباشا" الذي بدا غير مُهتمّ
بما يَأتيه الأبناءُ من نزاعات غريبة وقاتلة، نراه يطرح موضوعا آخر يَجْمَعُ بين غيبوبة
الأبدان وغيبوبة الدّنيا، ورأى في الأثناء أنّ الحديث عن غيبوبة الدّنيا أفضى
إلى الحديث عن غيبوبة أخرى أطلق عليها اسم : "غيبوبة الذرّية". ولكنّ
الباشا يلفت انتباه القارئ بالتلميح الصريح إلى قضيّة أخرى بدا مُتألّما بسببها
وتتمثّل فيما يأتيه الأبناء من أفعال تسيء إلى الآباء، ونعت تلك العمليّة بالبهتان[32]. والبهتان سلوك آخر
يأتيه الأبناء بسبب غياب حزم الأب حاكما وأبا وقاضيا مِمّا يقوّي من
أنانيّتهم ويضعف غيرتهم على المصلحة العامّة.
ذلك ما تابعناه خلال مشاهِدَ من الرّواية عندما
استفرد الشّيخَ "الفطيسي" بسيدي "يوسف" وزيّن له
الفظائِعَ من قتل وقسوة واعتداء، وخيانة، وغدر، وعَبَثٍ بصلة الرّحم، وبِشَعْبِ
الممْلكَة. ولم ينفكّ "الفطيسي" يُقنع سيدي "يوسف" بإتيان
المُنْكرَات. خاطبه مرّة بعد أن رأى منه تباطؤًا في أمر عَدَّهُ من المُنَاورات
قائلا: " أنت تنسى أنّك تقودُ حَرْبًا. وشعارُ الحرب الدّهاءُ الذي تسمّيه
مُناوَرَة؟[33] ثمّ
أضاف "لولا ما تسمّيه أنت مُناورةً لما أفلحتَ في التخلّص من البك؟[34]
ويبدو الشيخ مُتمكّنا من الجَدَلِ وسيلة خطاب
ظاهري، مُسيطرا على شخصيّة سيّدي
"يوسف"، ممّا مَكّنه من أن يَنفُذَ إلى أعماقها ليلقِّنها القدرة على المُمَاطلة،
والمُهَادَنَة، والمُراوغة، والمُداوَرَة، والمُناوَرَة، وعندما رآه مُتردّدا
نادِمًا على ما أتى من أفعالَ مُزْريةٍ، خاطبه قائلا : " الطّريق المُسْتقيم
يَقُودُ إلى الموت، ولكنّه لا يقود إلى السّلطان أبدا[35] .ويَهْدِفُ هذا التّحريض المُتأتّي من جدل مُتمَاسِكٍ ومَدْعُومٍ بحُجَجٍ
قويّة إلى زَرْعِ الشّقاق، والفتنةِ بين الأخوة. ولذلك كان
"الفطيسي" يُبَالِغ في دقّة رسم خطط تُمَكّن سيدي
"يوسف" من امتلاك كلّ شيء بدلا من إخوته فقتل وتنكّر، واعتدى ظلما على
عائلة أخيه "حسن بك" المَغْدُور به، فانتزع حقّها في الانتماء إلى
العائلة الحاكمة، وقتل مَوْلُودا مازال حديثَ العهد بالحياة حتّى لا يُنَافِسه
العرش يوما آخر، ولا ينتقم لقتلة والده. عملٌ فرعونيّ فظيع، ومؤلم هذا الذي جاء
"الفطيسي" يُؤَجِّجُ نَارَهُ، مُكثِّفا من الحجج العاطفيّة والعَقليّة،
إضافة إلى الحُجَجِ المُسْتقَاةِ من المَرْجِعَيْنِ الدّيني والتّاريخي.
" فمعاوية لم
يكن ليستطيع أن يُؤَسّس أكبر إمبراطوريّة إسلاميّة لو لم يُمهّد لسلطانه
بِحَرْبِهِ ضدّ عليّ؟". "أجل يجب أن تتنكّر كما تنكّرت دائما".
ويُمكِنُ أن نستنتج أنّ حجج الدّاهية بمختلف
أنواعها تهدف إلى التّأثير في شخصيّة سيدي "يوسف" الهَشّة. وذلك
باستغلال صغر سنّه، وقلّة تجربته، وطموحه الجَامح إلى الجاه والسّلطان حتّى ولو
كان ذلك على حساب أقرب النّاس إليه.
ثمّ إنّ جدلا آخر
دار بين سيدي "يوسف" و"الفطيسي" بدا من خلاله قاتل "حسن
بك" نَادِمًا على ما أتاه من جُرْم، مُحاوِلا أن يُقنِعَ
"الفطيسي" بالكفّ عن تحريضه على المُضيّ قُدُمًا في الإساءة إلى صلة
الرّحم، والعبث بها، "لقد نكّلنا أكثر ممّا ينبغي أن نُـنَكّلَ.
هزّ
"الفطيسي" رأسه استنكارا، في حين أوضح سيّدي "يوسف" :
- أنت لا تعلم ماذا كلّفني التنكيل بجثّة البك !
قال
"الفطيسي" :
- التنكيل الذي أعنيه ليس التّنكيل بجثث
الأموات، ولكنّه التّنكيل بأجرام الأحياء!
استنكر سيدي
"يوسف" :
- التنكيل
بأجرام الأحياء! وكان"
الفطيسي" يُمهّد إلى ذلك بضرورة التخلّص من ذرّية "البك"، مِمّا
جلب استغرابَ سيّدي "يوسف"، فردّ عليه "الفطيسي" قائلا : لا
بدّ من إماتة الضّمير إلى النّهاية إذا شئنا أن ننُهِيَ عملنا كما يجب! وتردّدت على لسان
سيّدي "يوسف" عباراتٌ مثل "لا أفهم"، التي تدلّ على عدم
الاقتناع، وعلى أنّ الحجاج لم يُحقّق هدفه مَبدئيّا على الأقلّ، إلاّ أنّ
"الفطيسي" يتمسّك بلعبة الحجاج مُستعينا بتراكيب إنشائية مثل الاستفهام
الإنكاري، وهمزة التنبيه، والغاية من ذلك هو التّحريض للإقناع : "ألا يقال
إنّنا يَجب أن نتيقّن من إصابة العدوّ فيما إذا احتكمنا إلى السّلاح، كما يَجِب أن
نتيقّن من إصابته إصابة مُميتة أيضا إذا أصبناه؟ وواصل التكثيف من الحجج والبراهين
كي لا يترك السّبيل لمُخاطبه فيرفُضَ، "أنت أصبت العدوّ، ولكنّ إصابتك لن
تكون قاتلة ما لم تزح من طريقك ذيولَه !
وردّ سيّدي "يوسف" مُتعَجّبا :
وهل تريدني أن
أقتل سيّدي "أحمد" أيضا؟ ولقد عُرِفَ عن "الفطيسي" أنّه يستغلّ
الحالة النفسيّة التي يكون عليها مُخَاطِبُهُ من خوف وتردّد ليكثّف الحُجَجَ
من أجل الإقناع فيخبره الخبرَ اليقينَ من أنّ "للاّعويشة" أنجبت
للبك وريثا؟ ولم يقابل هذه المرّة سيدي "يوسف" حجج "الفطيسي"
بالتعجّب، أو الإنكار، بل بالضّحك والاستخفاف وردّ عليه قائلا : "انتظرتُ
أن توصيني بما هو أهمّ من ذرّية "البك"!
وردّ عليه بأن لا شيء أهمّ من ذرّية "البك". وتمسّك الفطيسي بقراره
وأورد كلّ الحيل والبراهين لإقناع سيّدي "يوسف". وكان في كلّ مرّة
يُرْدِفُ كلامه بعبارات مثل تتغابى، استهزاء، صاح بخيبة. ومع ذلك ردّ عليه
قاتل أخيه بإعياء، قال :
- هل تريدني أن أخنق طفلا في المَهْدِ؟،
ولكنّ حجج "الفطيسي" كانت له بالمرصاد، وكانت قادرة على أن تجتثّ منه كُلَّ
أسبابِ التردّدّ والخوف، وأن تأتي على بقيّة من حياء. فخاطبه باستهزاء
واضح:
- لقد أجهزت على
شقيقك الأكبر في أحضان أمّه وأمّك، ثمّ تعجز في كتم أنفاس كتلة لحم لا سيمَاءَ لها
ولا إسمَ؟ (الرّواية، ص ص.19-21)، ويواصل "الفطيسي" مُحرّضا سيّدي
"يوسف" على قتل الوليد مُستعملا القياس الفلسفي والشرط تركيبا
لفظيّا : "إذا لم تلوّث يّديك بدم الرّضيع اليوْمَ لوّث الرّضيعُ يديه
بدمِك غدا؟[36] وتتكاثر
مثل هذه التّعابير المَبنيّة على الشرط تركيبا والحاملة بين طيّاتها مَعاني
الاستنباط والقياس[37].
وهي تقنيات حجاج بامتياز. كأن تبدأ من الحجة الأضعف إلى الحجة الأقوى، وتكثف من
الأساليب اللغوية، مثل التراكيب الشرطية، والاستدراك، والتأكيد على المعنى،
والنفي.
وأخبر قاتل أخيه
مريدَه أنّ الباشا بعث إليه بمسبحته رمزَ أمان للذّهاب إلى القلعة! وفسّر له شيخُه المزيّفُ
أنّ الباشا يُلوّح له بالتّنازل عن العرش. وحَذّره "الفطيسي" من وريث
آخر قَصَدَ به سيّدي "أحمد" قائلا : "لا نهلك عادة عندما ننتظر
الخطر. نهلك عندما نُأمِّن [كذا] أنفسنا من الخطر، فاحترس؟ والملاحظ هنا أنّ
"الفطيسي" ينطلق من العامِّ (نفي الهلاك عامّة في حالة انتظار الخطر)
إلى الخاصّ (يحصل الهلاك في حالة تأمين النفس منه). وتحت تأثير هذه الحجج
الاستدلاليّة قبل قاتلُ أخيه أن يَخمد رُوح الرّضيع ولكن بعقّار وليس باستخدام
اليدين، فعقب "الفطيسي" على رأيه القائل بأنّ العبرة بالنتيجة "إذا
لم يتألّق في يدك نصل القوّة في طريقك لنيل السّلطان فلن تفلح في إخضاع أحد !أم أنّك نسيت الآية القائلة : "وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ
مِنْ قُوَّةٍ"؟[38]
ويندرج هذا
النّوعُ من الحجاج ضمن طريقة الوصل التي "تُنِتِجُ قيام ضَرْب مِن
التضامن بينها لغاية إبراز تلك العناصر"[39].
والمُلاحظ أنّ
"الفطيسي" في حواره مع سيّدي "يوسف" يعمل على تفجير أيّ برهنة
ناجحة تعمل على الفعل والتغيير[40].
وتعمل على الإقناع، والتأثير في المُخَاطَب. وهكذا تتعمّق الفرقة بين الأخوين رغم
تنازل سيّدي "أحمد" عن البكويّة ولكنّ سيدي "يوسف" رفض ذلك
التّنازل. وأسرّ إليه في الآخر بأّنّه يفعل ما يفعل بسبب الإهانة، وإنّه يرى أنّ "الانتقامَ
هو الحياةُ"، إصرار آخر على المضيّ في العناد والتيه في الغرور وحبّ
الذات والتعلّق بالكرسي كلّفه ذلك ما كلّفه من إراقة دماء وهتْك رَوَابِط صِلَة
الرّحِم.
وزاد سلوك سيّدي
"يوسف" المُبالِغ في الأنانيّة سيّدي "أحمدَ" يَأْسًا من
إقناعه، وشعورا بالخوف، وميلا إلى العزلة خصوصا وأنّ الأخ كان يجد مُتْعَةً في
التنكيل به بعون أب استمرأ العَمَاءَ واستسلم للهَوَى، ولم يعد يأبه لمصير
الممْلكة مُنذُ اليوم الذي بعث فيه لـ"يوسف" بالمسبحة. وبعث برسول إلى
الأمّ يحذّرها من إظهار الحزن على فقيدها، وألزمها بالضّحك في وجه جلاّدِها الذي
نحَر بالأمْس ابنها البكر في حُضنها !فأيّ أب هو "عليّ باشا
القرمانلّي"؟ وأيّ قرين هو "علي باشا القرمانلّي"؟ بل وأيّ مَلِك هو
"عَليّ باشا القرمانلّي"؟[41].
ومن البلايا
الأخرى التي كان يُعَانِي منها سيّدي "أحمد" والتي كانت تُحْدِقُ
بالمملكة تلك الدّسائسُ التي كانت تحُوكها "إستير"، العنصر الخارجي
اليهودي المندسّ في قلب المملكة. فلقد كانت تطمَعُ أن يتزوّج سيدي
"يوسف" بابنتها فتصْبِحَ مَلكة. ولذلك كانت تعمل على تنحية سيدي
"أحمد" كما نجحت في تبرئة الابن القاتل من إدانة الأب وقصاص القانون.
وظلّ "أحمد بك" يعيش العزلة والخوفَ، والتردّدَ والعذابَ. وجاءه ذات
مرّة رسول من "مصراتة" يعرض عليه تضامن أهلها لتنظيم انقلاب على الحكم
لفائدته. بادره الرّسول بعد تمهيد طويل قائلا :
-أكابر
"مصراتة" يقترحون أن تختطفوا زمام المبادرة قبل فوات الأوان !
وأجاب
"البك" مستغربا،- هل يقترح أهل "مصراتة" أن أتخلّص من
"الباشا" بمساعدتهم؟ ويجيبه الرّسُولُ في الحال بأنّه إذا لم يتخلّص من
"الباشا" اليوم تخلّص منه هو غدا. وطال الحوار وطالت سلسلة الحجج التي
كان الرّسول يُحاول أن يُقنِع بها سيدي "أحمد"، لكنّه أجابه أخيرا
بالرفض قائلا : " لقد جئتني برسالة تحَرِّضُنِي على خيانة عهد كبّلنا اللّه
به كأبناء! ولم يكن ذلك القيد
سِوى الضّمير، وفضّل أن يَحْيَا شاة تسرح في قطيع ذئاب. وقبل الرّسول عذره
على مَضض، ولكنّه ختم الحجاجي بقوله : ما يُحَيّرني حقّا في هذه الملحمة
ليس إيمان الضحيّة بقدرها (لأنّنا كلّنا لسنا سوى هابيل في هذه الدّنيا) ولكنّ
اللغز هو إطلاق سراح قابيل بمشيئة الربّ![42]
وبهذا الحوار
تدخِلُنا الرّواية في مجال حجاج يَتعلّق في نظر بيرلمان أساسا
"بالبحث في المُمَاثل والمَعقول والمُحْتمل. وذلك في
حال ما إذا كان هذا الأخيرُ يفلت من كلّ الحسابات الحتميّة"، أو على الأصحّ
من كلّ التّوقّعات الرّاجحة، فإن رفض سيدي "أحمد" هذا العرض الذي يعينه
على الخلاص من خطر قضى على الأخ من قبله بالموت، وسيقضي عليه هو، فإنّ سيّدي
"يوسف" نصب له في آخر الرّواية كمينا ليزيحه من العرش، بعد أن سلّمه له
الباشا إثر عودته من منفاه وقد زهد في السّلطة والكرسي. تظاهر سيدي
"يوسف" بإعادته "" إلى كرسي العرش، قائلا : أبشر يا أبتاه
أبشر! فقد استطعت أن أحرّر
العرشَ! استطعت أخيرا أن
أستعيد لك العرش المغتصب! وكان الابن الغادر
يعلم جيّدا بأنّ "الباشا" سيتنازل له عن هذا العرش. لذلك وجّه خطابه
الجنوني إلى الخدم : -هيّا !احملوا الباشا!
أعينوا الباشا للوصول إلى العرش!
ثمّ صاح في الجمهرة، أجلسوا الباشا على العرش، قبّلوا قدميه، قدّموا لجلالته فروض
الولاء والطّاعة! أحمدوا اللّه على
الخلاص! وحمل العبيد
"الباشا" بين أيديهم تنفيذا لهوس سيدي "يوسف"، المسْكون بكرسيِّ
العرش، والذي حاك لسيدي "أحمد" مكيدة أبعده بها عن الحكم والاكتفاء
بتعيينه "بكا" على "درنة". إلاّ أنّ الباشا الذي برئ من هذا
الدّاء وكان قد عيّن سيدي "أحمد" مكانه أصيب بنوبة إغماء (الرّواية، ص
ص.387-388).
لعب "علي
باشا القرمانلّي" دور الشّخصيّة المحوريّة في نصّ الحجاج هذا فكان هو المركز
والأطراف، وكان الشّخصيّةَ النّموذجيّة، والشّخصيّة المساعِدة
على نمو الأحداث والمعرقلة لها في نفس الوقت. لقد بدا مُستهترا بأعراف
مَمْلكته، غير عادل بين أبنائه، يعمل على نشر الفتْنة،
والانصياع إلى دسائس المندسّين وحِقد الحاقدين. ذلك ما فعله "الباشا"
عندما شنّ "سيدي يوسف" حربا على أخيه، فنادى قائد المدفعيّة وأوصاه بأن
يُصوّب الرشّاش نحو البحر، مُخاطبا العبد الجورجيّ : "اليوم
أنا بحاجة إلى حِكمتك أكثر من حاجتي إلى خبرتك!
وأضاف مُوضّحا : "أريدك
أن تعلم أنّ سَيْفي مع "البك"، ولكنّ قلبي مع "يوسف"، فهل
تستطيع أن تُخَمِّن ما أريد؟. وبعد تملْمُل من العَبْدِ، وافق أن يَقْصِفَ القذائف
من برج الأسبان، لأنّ مَدافعَه مشدودة إلى الأرض، وفوهاتِها مُوجّهة إلى البحر،
وابتسم "الباشا" بغموض، ووعده بأن يُزوّجه لَلاَّ "فاطمة" إذا
أفلح[43].
لم يحتج هذا المَوْقِفُ
إلى جَدَل مَتبُوع بحجج للإقناع والتّأثير وذلك لغياب أسباب الاختلاف، ولكن
بتنفيذ العلج الزِّنجي وَصِيّة "الباشا" يَكُون قد ساهم بصفة
مُباشرة في عمليّة الخيانة الكبرى، وقد أثار جدلا لا ينتهي لمِ فعلت هذا؟ وعجز
"البك" على أن يُوقِف العلج عن قصف السّفن بنيران المدافع. وكان يُردّد
دون توقّف أن تحْترقَ السّفن أهْوَنُ مِنْ أن يحترق قلب الباشا! (م.س.ص ص.198-199).
واجه
"البك" "الباشا"، عاجزا وهمس أخيرا – لا أفهم. لو أفهمتني يا
أبي ماذا تريد مرّة لكفيت نفسك وكفيتنا كلّنا شرّ القتال!
صمت الباشا. قال بعينين مُغمضتين : لا أحد في هذه الدّنيا يعرف ماذا يريد! لو علم النّاس ماذا
يريدون لما عاشوا أشقياء!
يبدو هذا الجَدَلُ
غيرَ مُطابق على الأقلّ مبدئيّا لما رآه إيمرين[44]
من أنّه فِعْلٌ تواصليّ مَشروط بفعل اسْتِجَابِيّ إقناعيّ، مُؤثّر في مَقبُوليّة
وجهة النّظر. فـ"الباشا" يُحوّل وجهة الحجاج إلى موضوع فلسفي، أقلّ
ما يُقال فيه أنّه اعتباطي، إذ المعروف عند المنظّرين للحجاج "أنّ الخطاب
الحجاجي يتمَوْضعُ مُقابل خطاب مُضادّ. وبهذا المعنى لا يَنفصل الحجاج
عن الجدل، لأنّ الدّفاع عن أطروحة، أو نتيجة، يُقابله دفاع عن أطروحات أو
نتائج أخرى، ولأنّ الدّخول في الجدل لا يعني عدم الاتّفاق فقط، وإنّما يعني أيضا
أنّ المجادل يمْلك حُجَجًا مُضادّة"[45].
والحُجَجُ المضادّة التي يَمْلِكُهَا "الباشا" في الموقف هو هروبه إلى التجريد
والغموض واللاّجواب وذلك بتعميم الردّ وإعطائه صبغة فلسفيّة :
"لو علم النّاس ماذا يريدون لما عاشوا أشقياء[46]! فربط السّعادة بمعرفة
الغيب في حدّ ذاته مستحيل فما بالك والتركيب الشرطي مسبق بلو التي
تفيد الاستحالة. وبهذا الردّ يكون "الباشا" قد سدّ طريق الفَهْمِ أمام
ابنه سيّدي "أحمد" إلى غير رجعة، ولا غرابة أن يتصرّف
"الباشا" هكذا وهو المعروف بتقلّبات مِزاجه في مواجهة مصيره. فينجح
أخيرا في عرقلة انتصار الابن على الأخ الظّالم كما نجح في البداية في حمايته من
تهمة قتل الأخ الأكبر عمدا وبالتّالي عدم عرضه على المحاكمة.
يعمل
"الباشا" على تهميش فعل تواصليّ مشروط بفعل استجابي إقناعي،
مِمّا دفع الابن المُحَاجِج إلى أن يُتَمْتِمَ : أنت لم تخذلني يا أبي. أنت خذلت شعبك !أنت خذلت نفسك !هذا الجواب دليل على أنّ التّواصل لم
يتحقّق بين الأب والابن، وأنّ الخذلان يتجاوز الابن ليصيب الشعب
جميعا. فالأب إذن في نظر الابن ميئوس منه، ولا أمل في التّواصل معه.
وسبق أن قال له أيضا مُصرّحا بانتفاء الفهم كي يحصل التّواصل : "لا
أفهم. لو أفهمتني يا أبي ماذا تريد مرّة لكفيت نفسك وكفيتنا كلّنا شرّ القتال!
ويبرز هذا الرّأي
النّتيجة التي خرج بها الابن إزاء شخصيّة والده "الباشا"، رجل سياسة
أوّلا وأبا ثانيا. فكان من البديهي أن تنبني حُجَجُ "الباشا" على
التفكير الرَّصين، ومُقارعَة الحُجّة بالحُجَّة، والاستنتاج، ولِمَ لا التّأويل
إلاّ أن المُتلقّي يقرأ في مُعظم مَواقفه اللاَّمُبَالاة، والميلَ الواضحَ
إلى الغموض، مِمّا جعل الرّواية مسرحا ملائما للخطاب الحجاجي. ذلك
أنّ بقيّة الجدال توضّح امتلاك "الباشا" للغة الحجاج والتمسّك بإقناع
الخصم.
يردّ على ابنه بأنّ ما يراه هو خيانة
يُسمِّه هو رحمة، ويردّ على استغراب الابن من ذلك الجواب غيرِ المُقنع
بقوله: "في قلب مَواقع العدوّ يَدبّ قلبي، فلا تنس!
وكي يَخرُجَ من حجج سيّدي "أحمد" الذي ضيّق عليه الخناق بالتّكثيف من
الحُجج المُدِينة لأعماله وباتّهامه بشدّة الانحياز إلى الابن فيهرب إلى تعلّة
تقول بأن ما يَقومُ به سيدي "يوسف" يَدخُل في باب العُقُوق[47].
وهي نتيجةٌ لا تمكّن المَحَاجَّ من إدانة مُحاجّه، وبالتّالي ينفي الباشا عن نفسه
أيّة مَسؤوليّة، لأنّ العقوقَ تصرّفٌ أخلاقي وإن انسحب على سيّدي
"يوسف" فذلك ما لا قدرة للباشا عليه.
ولم يكن
"الفطيسي" الذي مَثُل أمام "الباشا" مُتنكّرا في ثوب
شيخ مريد سِوَى ذلك الشّخص الذي استعان بكلّ الدّسائس لِيُعين
"علي زول" على حياكة المرسوم المُزوّر من الباب العالي كيْ يقضِيَ على
حكم "الباشا" ويُنَصّب نفسه "باشا" جديدا للممْلكة.
وهكذا يجد
"علي باشا" نفسه يَتنحّى مُجْبَرًا من على كرسيّ العرش الذي كثيرا ما
تمسّك به وظنّه مِلْكًا دائما له، ظلّ ولزمن طويل يَستمِدّ منه الحياةَ.
فأظهر في القسم الأوّل من الرّواية على الأقلّ قبل تنحّيه أنّه غيرُ عابئ بما يجري
في الممْلكة. فلم يَكن حازما في سياسة أمور مَمْلكَتِه، بل أجاز فيها الفسادَ
والظّلمَ، والخوف، والغدر، وفقدانَ الطّمأنينة، مِمّا أضعف بنْيتها الاقتصاديّة
وجعلها عرضة للخصاصة. المُهمّ بالنسبة إليه أنّ الكلّ يأتَمِر بأوامره، وعجز لذلك
سيدي "أحمد" عن إقناعه بضرورة الإصلاح واليقظة، إلاّ أنّ ما جدّ من
أحداث انقلابيّة جعلته يَتنحّى عن الكرسيّ خوفا على حياته. ولم يكن له من حلّ سوى
الهجرة إلى تونس يَطلب الحِمَاية وينْشُدُ الاسْتقرارَ.
وهكذا اقتلع من
الكرسيّ اقتلاعا، وآلى العرشُ إلى المُتآمِرين من الطّامعين. سقط
النّظام، وسقط الأبُ الْمُتَهالِكُ والمُغيّب بإرادته
عَنِ الحقّ والعَدْلِ. وتنتقل العدوى إلى الابن، فَيُغادِر هو
الآخر. وكان أخوه "أحمد يعرف أنّه قاتلٌ، وظالمٌ، ومُسْتبدٌّ، وعابث بكلّ قيم
الحرّية والعدالة، والحبّ الأخويّ، والبرّ الأسَريّ،
ومُنحاز إلى العبث والفساد الأخلاقيّ الذي يُجوّز بواسطته المرْءُ
لنفسه ربط علاقات مع زوجة الأخ.
إنّ العبرَ والنّتائجَ من هذه الرّواية كثيرةٌ نَتخيّرُ
منها ما نراه مُرتبطا أكثر من غيره بعنصر الحجاج والتّواصُل.
4-الاستنتاجات
-إنّ الرّواية تنطلق من مرجعيّة تاريخيّة
تتمثّل في النظام الذي يُسَاسُ به شعب من الشّعوب والمُتَمَثّل في الحكم المُطْلق
الذي يُدِيرُه "علي باشا"، وتصوير الصّراع الفضيع بين الأبناء من أجل
الفوز بكرسيِّ العرش ليصبح المَوضوعُ المُتحَدَّثُ عنه قيمة مُجَرّدة تتعلّق بالحُرّية
والديمقراطية، وبالضّمير، والوفاء والغدر، وغياب الأمن،
والعدل.
- تنبني الرّواية في تركيبتها العامّة
على
"الحجاج الحواري" وهو في نظر جاكوبس "عمليّة تكييف للمَبادئ
الحواريّة العامّة، مع مُتطلّبات وظيفة خاصّة، وهي وظيفة إدارة الخلاف. فالحوار –
كأيّ نسق- يَتطلّب آليات تنظيميّة، تواجِه القضايا الخلافيّة، بوضع الحجّة
في مُحيط الخلاف المَفتوح أو المُتضمّن، أو المُسْقط، وإعطائها وظيفةً
تداوُليّةً، مادام الخلافُ علاقةً بين الأفعال اللّغويّة الحواريّة، أيًّا كانت
القضايا المُرتبطة بهذه الأفعال"[48].
وقياسا على ذلك فشل
سيدي "أحمد" في جداله مع "الباشا" إلى التوصّل إلى حلّ يُقنعه
به فيُنيرُ ما التبس أمامه من اشتباك بين مسؤوليّة الحاكم ومشاعر الأبوّة.
وأصَرَّ "علي باشا" طيلة القسم الأوّل من الرّواية أن ُيجَادلَ مُغمضَ
العينين رفضًا للوَاقع، وتجاهُلا لكلّ المُعْضلات التي كانت تمُرُّ بها المَمْلكة.
ثمّ غادر بعد الهزيمة مُتّجِهًا إلى تونس في القسم الثّاني من الرّواية مُجبرا على
التنحّي لِيَنْجُوَ بنفسه، وقد خلّف وراءه لَلاّحَلّومَة التي كثيرا ما تجاهلها
وحَقّر مِنْ شَأنِهَا.
وفي هذه الفترة عاث "الباشا"
المزعومُ في الممْلكة فسادا وعبث بحرمة المُحصّنات من نساء القصر، واختطف
زبانيّتُهُ للاّزنوبيا ليجْعلها مَحْضيّة له[49].
وألحق أقصى أنواع العذاب بوُجَهَاءِ القَوْم، لقد كان التّحْطيم والتّخْريب عَامّا
وشاملا (الرّواية ص.297). عَذاب طال مَنْ في القصْر وحتّى مَنْ كان خارجه، ولم تسْلم
لَلاّحلّومَة من انعكاسات تلك البَليّة، فعاشت لحظات من الذلّ والاحتقار
والعذاب، مَرَضٌ وخصاصة بعد عِزّ ووَجاهة، ممّا جلب شفقةَ زوجة القنصل
البريطاني، فهَمَست لرفيقتها قائلة : "من يُصَدّق أنّ الزّمَان يُمْكِنُ أن
يَمْكُرَ بالباشا وعائلة الباشا إلى حَدّ تختبئ فيه لَلاّحلّومة في أحد الجُحُور
كأنّها فأرةٌ وتنتظر أنْ تُنجِدَها "المِسَزْ تُولَلِّي" ببعض القَهوة
وقوالبِ السكّر كأنّها مُتسوّلة تتلقّى الإحسانَ"[50].
-تكتسي الرّوايةَ
تعابيرُ مجازيّةٌ إذ شبّهت للاّحلّومة مثلا الباشا بـ"هاملت" هذا
الزّمان الذي لن يستعيد عرشه.(الرواية ص.300) وكذلك لعب المؤلّفُ بالكلمات مثل
هاشّة باشّة، هسيس الرّيح، "وليّ اللّه يريد لقاء ولي الأمر". (الرّواية،
ص ص.49-304.). وذلك على سبيل السّجع والطّباق.
ولم يُظهِر الباشا
طيلة القسم الأوّل من الرّواية تَمَسُّكًا بكرسيّ الحكم فقط، بل إنّه أبدى انحيازا
إلى أصغر أبنائه على حساب إخوته. ودفعته تلك المشاعرُ إلى غضّ الطّرف عن قتل سيّدي
"يوسف" أخاه البك "حسن". ولم يُظهِر حماسا لمُحاسبة القاتل،
بل أعطاه مسبحَة بمعنى الإعلان عن حمايته. وعاش "الباشا" في غربته شعورا
بالنّدم على ما حلّ به. وكان يُردّد قائلا : "فرّقتنا النّعمة فجمعتنا
النّقمة"[51] يقول
ذلك ويَختلِسُ النّظرَ إلى ابنيه نظرات ذات معنى قبل أن يُضيف : " العروش
حِسَانٌ، والحسانُ فتنةٌ!" والملاحظ أنّ
شخصيّة الباشا قد تغيّرت ظاهريّا وباطنيّا، فقد ضعف جسْمُه، وصارت عيناه
مَفتوحتين، بعد أن كان يَحْلُو له أن يُغمضَهُما عندما يتكلّم حتّى أنّه يقول: "صرعتني
النّعمة فأنقذتني النّقمة". ثمّ يُتمتِمُ "اللّعنة على العروش
وأصحاب العروش".
سكن وهو في
ضيافة باي تونس قصرا أنيقا مُشيّدا على قمّة هضبة سيّدي بوسعيد المطلّة
على بحره الحميم الذي كلّما نظر إليه احترقت مقلتاه بدمْع أحَرّ من ماء النّار
(الرّواية، ص. 335)
-يُشكّل المكان في
القسم الثّاني من الرّواية نقطة تحوّل في مَواقف الباشا من الحكم وكرسيّ
العرش. ذلك أنّه أدرك في مَنْفاه أنّه لم يَمتلك من طرابلس إلاّ القلعةَ ولم يَمتلكْ
مِنَ القلعة إلاّ النّافذة المُشرفَةَ على البحر اللّيبي العظيم. (الرّواية، ص335)
وإن كانت للبَليّة التي تعرّض لها الباشا وعائلته انعكاسات سلبيّة على حياتهم
واستقرارهم، إلاّ أنّ إيجابيّاتِها كانت هامّةً، فلقد مكّنت الحياة في المنفى
"الباشا" من الصّحوة والتّأمّل، تأمّلٌ في الدّنيا، وفي الحكم وفي
الملْك، وفي الرّوح، فقد حقّقت له الخلوةُ ما أخْفَقَ العرشُ في تحقيقه له منذ
سنوات. ولهذا السبب يَقول صاحبُ العرش الضّائع : "البحر هو الرّوحُ، والرّوحُ
ما هي إلاّ البحرُ. البحرُ والرّوحُ لُغْزانِ لا تنكشف هَوِيّةُ أحدِهِمَا إلاّ
بِعَوْن مِنْ هَويّة ثانيهما ربّما لأنّ البحرَ ماءٌ، والماءُ ما هُوَ إلاّ
الرّوحُ إذا عَنّ للرّوح أن تتجسّد. كما أنّ الرّوح ماء إذا عنّ للماء أن
يَتَخفّى، أن يَتبَدّد، أن يَتحَرّرَ. "(المصدر نفسه، ص336).
-هناك انتقال إذن في القسم الثّاني من
الرّواية من حياة البذخ إلى حياة الزّهد والقناعة، ومن حبّ
الذّات والغِيّ إلى مراجعة النفس، والإنصات إلى صوت الرُّوحِ والعقل.
ضعف "الباشا" في جسده، ولكنّه اكتسب قوّةً في ذهنه وصحوةً في رُوحِه.
وهكذا أدرك وهو في منفاه "كم كان "عليّ باشا القرمانلّي"
مُغتربا عن "عليّ باشا القرمانليّ"[52]. وفي
هذا إقرارٌ بغربة النّفس عن النفس، وانشطار الشّخصيّة إلى شخصيّة حاضرة وأخرى
مُغيّبة.
-تتداخل في هذا النصّ الحِجَاجيِّ الأسبابَ
والمُسبّبات، وإتيان المنكرات، واللّهفة على السّلطة، وجمال المرأة، والفتنة
الخارجيّة، وعدم حزم الأب، ثمّ إنّ كثيرا من المعاني تأخذ مكانها في هذا النصّ مثل
الخيانة والغدر، والإهانة، والمُغالطة، والوُصوليّة، والفساد. وما يُطرَحُ في هذا
النصّ الرّوائي هو غياب القيمة، والحرّية، والدّفاع عنهما، والالتزام بهما.
فالكلّ يبدو في الرّواية أسيرَ الكرسيِّ، وأسيرَ الجاه والسُّلطان، وفوق ذلك
أسيرَ نفسه المكبّلة بكلِّ هذه الإغراءات. فنحن نتابعُ في هذا النصّ نسيجا من
الأحداث المُذهلة التي تدورُ حول فعل الانتقام والغدر والقتل والتربّص بالآخر، والغياب
الكلّي لشخصيّة حرّة تعي ما تفعل، وتفعل ما تعِي. ذلك أنّنا بالحرّية نُحقّق فضاء
حرّا وعلاقات نزيهة، كما "بالقيم نستطيع تشكيل الحقيقة المطلوبة على
الوجه الذي يريد المُبدع [خطيبا كان أو كاتبا][53].
ولم تكن الوسائلُ البلاغيّة المُسْتعملة في
الرّواية سوى تلك التّراكيبِ اللّغويّة المُتعلّقة بالشّرط، والاستعارة،
والاستفهام، وأحيانا يَلتجئ الرّوائي على لسان شخصيّاته إلى الأطاريح
والمقاربات إذا تعلّق الأمر بموضوع فلسفيّ، يغلب عليه الافتراض. نفهم ذلك من
خلال لهجة المحاجّ وتراكيبه اللّغويّة.
ورغم ما ندّعيه من أقوالَ فإنّ المعجم الحواري
المستعمل في الرّواية العربيّة بصفة عامّة لم يدرس حجاجيّا. ذلك "أنّ الحجاج
مُسَجّل في بنية اللّغة ذاتها وليس مُرتبطا بالمحتوى الخبري للأقوال ولا بمعطيات
بلاغيّة مَقاميّة"[54].
ولعلّه لهذا
السّبب يَكتسب عنوان هذه الرّواية قابيل..أين أخوك هابيل؟ المكتوب باللّون
الأسود مَعانِيَ أخرى، منها الحِدادُ، والحزنُ، والخوفُ، والغدرُ، والقتلُ، وغياب
الأمْن، والطّمأنينة، والضّياع. ثمّ إنّ التمرّدَ والفوضَى، والفسادَ الأخلاقي مِن
المَعاني التي صارت تسودُ أرجاءَ القصر المَلكي الذي يَسكنه الباشا
"عليّ" والذي يبدو في غيبوبة مُتواصلة وإن أظهر في عديد المَواقف أنّه
يتابعُ ما يجري في قصره بانتباه شديد. ولقد جلبت الثنائيّة التي شطرت
شخصيّة الباشا نصفين حضور وغياب، حكمة واستهتار، حبّ وكره، عدل وظلم، حرص
ولامبالاة.
كلّ هذا جرّ لمملكته الدّمار والويلات وأذاقه
الذلّ، وتسبّب له في التشرّد. وعاد على عائلته بالتفكّك والضعف والكراهيّة.
-ما يمكن استنتاجه أيضا هو ما يسيطر على لغة الكوني من القولَ الضّمني، لأنّ
الغايةَ من الحجاج هو التّوجيه[55].
والقول الضّمني يتمثّل في إنشاء تناصّ بين ابني "الباشا"
سيدي "يوسف" و"حسن بك"، وبين قصّة "قابيل"
و"هابيل" مرجعا دينيّا ورد في النّصوص القديمة وفي القرآن الكريم
لتأريخ أولى الجرائم التي وقعت على وجه البسيطة، ومَا إنشاءُ نصّ أدبيّ عَلَى
النصّ المَرْجعيّ في زمننا هذا إلا دليلا على أن غريزة القتل من أجل السّلطة وبسبب
الغيرة، وحبّ بسط النّفوذ ليست إلاّ مُيُولات لا تزال مُستفحلة حتّى عَصْرَنا
الحاضر، لذلك اكتسب القسم الأوّل من الرّواية سِمَة الحِجَاج. وما قوّة الحِجاج
الذي نجح المُؤلّف في صنعته إلاّ تقنية بهدف التّوجيه، وبهذه التقنية يُمْكِنُ
تأكيد الوظيفة الحجاجيّة التي نستشفّها من لغة الخطاب المُهيمنة على الرّواية،
والمُرادُ منها هو إقناع المُتلقّي بشدّة التصاق الحكّام بكرسي العرش، وبصراع
الأولاد الدّمَويِّ تدفعهم إلى ذلك رغبة الفوز بهذا العرش حتّى لو أدّى ذلك إلى
القتل، المُهمّ هو التخلّص من العراقيل بشريّة كانت، أو معنويّة. و"إنّ
المبدِعَ (خطيبا كان، أو كاتبا) مُطالبٌ أكثر من ذي قبل بحسن توظيف هذه
المَقامَات، واحترام حُدودها حِرصا على سلامة المَسار الحِجاجي والمُخطّط
الإقناعي... فحسن استحضار المَقام، أو بعبارة أخرى حسن استغلال إمْكاناته يَمْنحُ
المَسار الحجاجي "قوّة ذات تأثير دامغ"[56].
-تعالجُ الرّواية إذن ثنائيّات تضادّية
مثل الحياة، والموت. فالحياة هي أن تقتل كي تفوز بالكرسيّ. هذا الكرسيُّ الذي
بدا "الباشا" مُلتصقا به التصاقا ولا يقبل عنه بديلا، حتّى أنّ جسمه صار
ضخما ومُشحّما ورَجْرَاجًا، يَفيضُ من على جانبيه فيضا. إذن فالكرسيُّ عند
هؤلاء هو عنوان الحياة. وهو الاستقرارُ، والأمانُ، وكلّ ما عدا ذلك فخَطرٌ،
وخوْف. والكرسيّ هو القصر، والجالسُ عليه مَلك، مطمئنٌّ على حياته، لا تصل
إليه الأيادي. وهكذا يبدو "الباشا" بين نوم ويقظة، غياب وحضور، اتّصال
بمَن في القصر، وانفصال عنهم، كما يبدو ساخرا وجادّا، مَوْجودا وغائبا، عابثا
وحازما، آمِرًا ومَأمُورا، عادلا ومُسْتبدّا، وكان عليه أن يفهم أنّ الكرسيَّ هو
أيضا عنوانُ مَسؤوليّة وحزم، وإنصاف وعَدْل. وإن غابت هذه الشروط ضاع الملك، وسقطت
الدولة، وفتح باب الفوضى والمهانة.
الخـاتمــــة
يُمْكن القولُ في النّهاية إنّ المؤلّف
يُدْرِجُ عنوان روايته لا في معنى الصّراع على السّلطة فقط، بل يُمكن
إدراجُه في مَعْنَى الحُـــرّية، عنوان الحياة، ومآل صراعاتها، واتّساعها لصوغ
روايات لا تنتهي، وإن اختلفت مواضيعها. "وما تفضيل الرّبوبيّة كما يقول
الكوني نفسه لقربان الرّاعي هابيل على قربان حميم الأرض قابيل إلاّ أليجُوريّا
لإعْلاء شأن الحُرّية التي تُمَثّلها الهجرة في مُقابل إدانة المَلَكيِّة كنظام لا
أخلاقيّ، عبادة حطام الدّنيا، وهو ما يَعني أنّنا لا يجب أن نبتهج كثيرا بانتصار
الرّبوبيّة لخيارنا باختيارها لمِريد الحرّية هابيل، لأنّ الفوزَ بِمَحبّة الرَبّ
أيضا رِهَان خطِر. والدّليل هو"هابيل" الذي دَفَعَ الحياة ثمَنًا لهذا
الحُبِّ..."
يقول المُؤلّف في تصريح آخر: "هل نُبْدِعُ،
يا ترى، لكي نستمتع، أم أنّنا نبدع لكي نَتَحَرّر"؟ جريدة العرب،
بانوراما الصّحافة، يوم الثلاثاء 28-12-2010، ص.10، مقال مأخوذ من الشّمس
الليّبيّة)، ومن جهة أخرى تعتبر هذه الرّواية رسالةً إلى كلّ من أزاح مُنافسيه عن
الكرسيِّ باستعمال أبشع الوسَائل ألا وهْيَ القَتلُ، أو الخديعة اللّئيمَة،
أو الخيانَة المَوْصُوفة، أو العبث الفظيعُ بكلّ ما هو قيمة. واحترام
للإنسان ولِكينونَته في أن يعيش حُرّا كريما. لذلك أحسّ "الباشا"
عندما تنازل عن الكرسيّ بالحرّية، ووجد في الجفاء الذي أظهره إزاءه النّاسُ
"راحة، بل سعادة، بل شيئا أعظمَ شأنا من راحة البال ومن ما[كذا] يُسمّيه
النّاسُ سعادة. وجد .. الحُرِّية!
لقد عاهد نفسه... أن يُضَحِّي بكلّ شيء في دنياه في سبيل أن يَحْتفِظ
بالحرّية. في سبيل أن يَحيَا الحرّيّة. في سبيل أن يَمُوت حرّا. (الرّواية، ص
ص. 385-386).
يَتواصلُ هذا النصّ الرّوائي مع مُحيطه العربي والإنساني عبر التّاريخ وفي
الحاضر، لذلك لعبت الاستعارة، والتّعابير
البلاغيّة المُوحٍية مثل التشبيه والمجاز دورا هامّا، فـ"قابيل"كنايَة
عن سيدي "يوسف"، و"هابيل" كنايَة عن "حسن بك"،
ومُعضلة هذا الزّمان أنّ "قابيل" يُبعث حيّا ليقتل "هابيل"
بسبب الغيرة، أو الإهَانَة كما يُصرّح هو بذلك لأخيه "أحمد". (الرّواية،
ص.49) وكأنّ النَّصّ يقول بأنّ القتلَ غريزة كامنة في الإنسان لا تَتغيّرُ وإن طَوَاهَا
الزّمانُ.
وإنّ القتل بسبب
الغيرة كان مَوْجُودًا منذ وُجِدت الإنسانيّةُ ولا يزال، ولعلّ المُؤلّف يُريدُ
أن يقولَ إنّ قابيلَ ذلك الزّمان الذي جسّم دورَه "سيدي يوسف" في آخر
عهد الدّولة القرمانلّية (1832) لا يزال مَزْرُوعًا في عصرنا هذا الذي يَعرضُ
علينا تطاحُنًا، وتقاتُلا وإن اختلفت العلاقاتُ بين المُتقَاتلين. وذلك بسبب
الاختلاف في المذاهب، واللّهفة على كرسيّ العرش. هذا الكرسيّ الذي ورد الحديثُ
عنه في أحداثَ بمجلّة تاريخيّة كانت المَرْجِعَ الأصْلِيّ لهذه الرّواية التي صاغ
المؤلّف على هامشها مجموعة من الرّوايات ناقلا للمُتلقِّي مدى خطورة تلك الفترة
وتشعّبَاتِها من حيث الصّراعُ على الحكم، وتقلّبُ رجال السّياسة، وعدمُ العدْل
في سِياسَة الشّعُوب.
الدكورة زهرة سعدلاوي
[1]
مداخلة تمت المشاركة بها في ندوة أقيمت بجامعة مولاي إسماعبل الكلية المتعدّدة
التخَصُّصَات، الرشيدية بالمغرب، يومي 21-22 أفريل 2011.
[2]نداء ما كان بعيدا صدرت سنة 2006. وتحصّلت على جائزة الشّيخ زايد سنة
2008، يعقوب وأبناؤه، نشرت سنة 2007م، وقابيل أين أخوك هابيل، صدر ت
سنة 2007م .
[3] انظرالحوليّات اللّيبيّة منذ الفتح العربي حتّى الغزو الإيطالي، تأليف شارل فيرو، ط. مزيدة ومُنقّحَة، نقلها عن الفرنسيّة وحَقّقها بمَصادِرِهَا العربيّة ووضع مُقَدّمَتَهَا النّقديّة الدّكتور محمّد عبد الكريم الوافي، أستاذ مساعد بقسم التّاريخ، كلّية التّربية، جامعة الفاتح. المنشأة العامّة للنشر والتّوزيع والإعلان، طرابلس- الجماهيريّة العربيّة اللّيبيّة الشّعبيّة الاشتراكيّة. وتشتمل هذه الطّبعة على ثلاثة فصول: الأسرة القرمانلّية أحمد الأوّل من سنة 1711م إلى سنة 1745م. الفصل الثّاني : الأسرة القرمانلّية محمّد وعلي الأوّل، من سنة 1745م إلى سنة 1795م. أمّا الفصل الثّالث فهو بعنوان الأسرة القرمانلّية يوسف وعلي الثّاني من سنة 1795 إلى سنة 1835م. انظر دراسة حول "نداء ما كان بعيدا" من المرجعيّة التّاريخيّة إلى الجماليّة الرّوائيّة، زهرة سعدلاّوي كجولي، كتابات معاصرة عدد 77.
[4] تتمحور
الأمكنة حول الأستانة (صيف 1793)، الرّواية ص.249. سواحل
طرابلس (29 يوليو 1793)، الرّواية، ص.265. جزيرة جربة في اليوم الثّامن والخمسين
للاحتلال من عام 1794م، الرّواية،
ص.346. حقول جنزور (غرب طرابلس) يناير 1795م. الرّواية، ص.351. السادس والعشرون من
يناير عام 1795م مغادرة الوزير مصطفى خوجة طرابلس عائدا بجيشه إلى تونس.ص. 374،
السراي الحمراء 10 يونيو 1795م. الرّواية، ص.379. الخاتمة غزّة. فبراير 1804
الرّواية، ص.390 وتستند هذه الأحداث إلى
ما ورد في الحوليّات التي اعتمدها الرّوائي في مجموعته الرّوائيّة التي سبق ذكرها.
[5] ظهر
الحجاج مع علمين، هما برلمان وتيتيكا، سنة 1958 وقد عُرِفا بكتابهما الموسوم بعنوان : "مصنّف
في الحجاج: البلاغة الجديدة"، ط. 5،1983. ( Cham Perlman et Lucie Olbrechts Tyteca.Traité de
l’Argumentation. La nouvelle théorie préface de Michel Meyer. 5éme édition.Ed. de l’Université de
Bruxelles).، بيرلمان وتيتيكا، م.س.ص.695
[6] محمّد
طروس، النّظريّة الحجاجيّة، من خلال الدّراسات البلاغيّة والمنطقيّة واللّسانيّة، دار الثّقافة، مؤسّسة للنشر
والتّوزيع، ص.7
[7] محمّد طروس، النّظريّة الحجاجيّة، م.ن. ص.11
[9] النظريّة الحِجَاجيّة، مرجع سابق، ص.18
[10] انظر الحجاج في الخطاب
القانوني مشروع قراءة، أطروحة دكتوراه أعدّها عزالدين النّاجح، تحت إشراف
الأستاذ الدكتور خالد ميلاد، مخطوط، تمّت مناقشتها سنة 2010، ص.18 ص. 112.
[11] ماير، المرجع نفسه، ص.136. Michel
Meyer, Logique, Langage et argumentation; édt.Hachette.1983
[12] ماير، م.ن.ص.82. p
[13] د.محمّد
طروس، النّظريّة الحجاجيّة، م.س. ص.5
[14]عبد اللّه صولة، الحجاج أطره،
ومنطلقاته، وتقنياته من خلال مصنّف في الحجاج، الخطابة الجديدة، لبيرلمان وتتيكا،
من مؤلّف جماعي، أهمّ نظريّات الحجاج في الـّتّقاليد الغربية من أرسطو إلى اليوم، إشراف حمّادي صمّود، منشورات كلّية الآداب منّوبة،
تونس، 1998،ص. 304
.
[15] Ducrot (O) et Anscombre
(J.C) : 1997, L’argumentation dans la langue, Edt. Margada,p.8.
3 أوليفي روبول، هل يمكن أن يُوجَدَ حجاج غير بلاغي، تر. محمّد العمري،
مجلّة علامات في النقد، ديسمبر 1997، ص. 77.
[17]
Perleman et
Tytéca. Traité de l’argumentation 4ème Edition 1983 Edition de l’université
de Bruxelle.p.11.
[18] الاستهلال: جزء افتتاحي يستهدف به الخطيب الاستحواذ على انتباه
السّامعين
- السّرد: يعتمد
في الخطاب القضائي، أو القيمي، وقد يلجأ إليها لتقديم المثل في الخطاب الاستشاري.
-الإثبات: يمثّل
الخطوة التي يتمّ فيها الإدلاء بالحجج، وهي عمليّة تطرح مشكلا بنيويّا داخليّا.
والاستطراد قوس متحرّك، يتموضع غالبا بعد الإثبات،
ويلعب فيه الخطيب على وتر العاطفة بالتسلية، أو بإثارة السخط، أو الشّفقة.
-الخاتمة : نص يُنهِي به الخطيب خطابه انظر النّظريّة لحجاجيّة، مرجع
سابق، ص ص. 20/21.
[19] المرجع نفسه.ص. 20 .
[20] قابيل..أين أخوك هابيل؟، مصدر سابق، ص.15
[21] المصدر نفسه،
ص ص.15_16
[22] اقترح بيرلمان
وتيتيكاة في المحاججة طريقتين، هما: طريقة الوصل وطريقة الفصل، أو
الطرائق الاتصالية والطرائق الانفصالية. انظر لمزيد الاتساع عز الدين
الناجح، مرجع سابق، ص.11
[23]
د. محمّد طروس، النّظريّة الحجاجيّة، م.س.
ص21.
[24] قابيل..أين
أخوك هابيل؟ مصدر سابق، ص ص.28-34
[25] المصدر نفسه،
ص.35
[26] النظريّة الحجاجيّة، م.س.ص. 121
[27] نفس
المرجع، ص.54
[28] محمد سالم ولد محمد الأمين، مفهوم الحجاج عند
"بيرلمان" وتطوّره في البلاغة المعاصرة، مجلّة عالم الفكر العربي،
المجلس الوطني للثّقافة والفنون والآداب، دولة الكويت، المجلّد الثّامن والعشرون،
العدد الثّالث، يناير/ مارس، 2000، ص.83.
[29]عبد الله صولة، م.س. ص. 343.
[30]
عز الدّين النّاجح، الحجاج في الخطاب القانوني، بحث لنيل
شهادة الدّكتوراه في اللّغة والآداب العربيّة، إشراف أ. خالد ميلاد. ص.11
[32] المصدر
نفسه، ص.84.
[33] المصدر نفسه، ص.36
[34] المصدر نفسه، الصّفحة نفسها.
[35] المصدر نفسه،
ص. 37.
[36] المصدر نفسه، ص. 22
[37] اهتمّ أرسطو في دراسته للقياس كثيرا بالاستنباط كمبدأ في
الاستدلال الذي يَنطلق مِن العامّ إلى الخاصّ [كلّ إنسان فان (قضيّة كبرى)، سقراط
إنسان (قضيّة صغرى)، إذن سقراط فَانٍ (نتيجة). النّظريّة الحجاجية، مرجع
سابق، ص. 23.
[38] لمصدر نفسه،
ص.46
[39] عبد الله صولة، الحجاج في الخطاب القرآني من خلال
أهمّ خصائصه الأسلوبيّة، منشورات كلّية الآداب منّوبة، تونس، 2001، ص. 27.
[40]
محمد سالم ولد محمد الأمين، مفهوم الحجاج عند بيرلمان، م.س.ص.87.
[41] قابيل.. أين أخوك هابيل؟ المصدر نفسه، ص
ص.118-119.
[42]
المصدر نفسه، ص ص.122-131.
[43] المصدر نفسه،
ص ص.194-195
[44] إيمرين، 1987:205، انظر
النّظريّة الحجاجيّة، ص.120.
[45] النّظريّة
الحجاجيّة، ص. 108.
[46] المصدر نفسه،
ص. 211.
[47] المصدر نفسه، ص.212.
[48] جاكوبس 1987:229، نقلا عن محمّد طروس، م.س.ص.127.
[49] المصدر
نفسه،ص.298.
[50] المصدر نفسه، ص.289.
[51] المصدر نفسه، ص. 334
[52] المصدر نفسه، ص337.
[53] عالم الفكر، ص.84
[54] المبخوت شكري، الاستدلال البلاغي، دار المعرفة للنشر
كلّية الآداب منّوبة، تونس، 2006، ص.361.
[55] انظر إحالة
رقم 1، من بحث عز الدّين النّاجح، م.س.ص.53.

تسع مدوّنة إبراهيم الكوني دراسات تكون بحجم كتاباته التي تجاوزت المائة مؤلفا، سوف تتفاعل مع أفكار لن تموت بحثا لأنّ صاحبها ربطها بمشاغل الإنسانيّة الدائمة.
ردحذف