الثلاثاء، 29 سبتمبر 2020

قصة قصيرة بقلم الأديبة ريم العيساوي

 أم سليــم - ريم العيساوي

أفاقت على صوت الممرضة تبتسم لها وتمسح لها وجهها.
- الحمد لله على سلامتك يا أم سليم .
- .................................
- لا تيأسي لا بدّ أن يظهر الحقّ.

** ** **
ابتدأ ذلك اليوم هادئا جدا , كانت حرارته معتدلة , نسمات صباحية تنشر أنفاس الربيع ... الشاطئ تدغدغ أمواجه الرقيقة صفحات الرمال , الهواء ناعم , والسّماء شفافة الزرقة .. سرب من الطيور يحلق عاليا , في الفضاء أشعة الشمس تداعب صفحات الماء ... خرجت أم سليم من بيتها .. أغراها جمال الجو وصحوه أن تتنعّم بماء البحر . تركت ابنها نائما بعد أن رسمت على جبينه قبلة . وانتعلت قاصدة الشاطئ الذي لا يبعد كثيرا عن بيتها . غطست رجليها في الماء أحست بلذة ونشوة تعروان جسمها .. نظرت إلى الأفق البعيد وتنهّدت .تمنّت لو كان لها جناحان فتحلق بهما في سماء وطنها .. إنها حمامة بيضاء تشرف على الجبال والبحر وتـرى الأمواج تتكسر على الصخور . أخذت حفنة تراب مبلل في يدها .. فرّق الماء حبات الرمل بين أصابعها . حبات الرمل ذهبت واختفت . أعادت الكرّة وحاولت الضغط على الرمال حتّى لا تندثر حباتها .. رأت في صورة الرمل مصير إخوانها , صاحت : " لا بد أن تستقرّ حبات الرمل وتقوى على البقاء , وتثبت كيانها " . تمنّت لو كانت هذه الحبّات قنابل مبيدة فتمحو بها آثار الطاغوت . حدّقت في السماء .. رأت غرابا بعيدا ... استنكرت وجوده بين الطيور الجميلة .. غسلت يدها وعادت سريعة الخطى إلى ابنها سليم ... لم يبلغ سنّ الخامسة .. خافت أن يفتح زر الغاز .. خطاها سريعة , ورأسها يزخر بذكريات جميلة , صورة سليم في عيد ميلاده الثاني ..وكعكة الميلاد المستديرة ..صورة قاسم زوجها يضع قبعته العسكرية على رأس ابنه ويقول له : " ستكبر يوما يا ولدي وتصبح ضابطا مثلي , وتقتل الصهاينة أعداءنا " . تخطت أم سليم عتبة الدّار , ولجت حجرة النوم , سليم لازال نائما , بدا لها في هذا اليوم أجمل من ذي قبل , رنت إليه في حنو , قبّلت وجنتيه وزحزحت الغطاء عنه في لطف ... داعبت خصلات شعره الداكن , قرأت صورة قاسم مصغرة فيه : أنامله , أذناه , حاجباه , طريقة نومه . نظرت إلى اليوميّة الجداريّة نزعت منها ورقة اليوم : الثلاثاء الواحد من أكتوبر خمس وثمانون وتسعمائة وألف . رنّ جرس السّاعة الحائطية عاليا حادّا , تحرّك سليم فى فراشه .. خاطب أمّه :
- صباح الخير يا ماما.
- صباح الخير يا عيوني .. انهض اليوم جميل جدّا .
- هل تتركيني أسبح ؟
- لا يا بني ، الجوّ حار , لكن ماء البحر بارد , نحن في شهر أكتوبر بداية من اليوم .
- أنا أريد أن ألعب فى الرمل قليلا !
- حسنا بشرط ألاّ تطيل اللعب , تعال اغتسل وتناول فطورك أوّلا .
اشتغلت أم سليم بترتيب البيت وغسل أواني العشاء , أما سليم فهرع نحو الشاطئ مع أبناء الجيران , حمل معه سطله ومجرفته , لا يلذّ له اللعب على الرمل إلا بهذه الأدوات الصغيرة .
انغمست الأمّ في تنظيف الأواني حتّى أحست بوخزات غريبة لم تستطع أن تتحسّس مكانها بالتدقيق .. انتابها حزن مبهم واستولت عليها أفكار غامضة . جسمها ثقيل وحركاتها شبه مكبّلة . دخلت المطبخ وإذا بدوىّ عظيم يصك أذنيها , دمدمة كالرعد أو كالزلزال , الدوىّ يقترب شيئا فشيئا فكرت في سليم خرجت تجرى في ذهول , السماء خطفت منها عقلها وارتجت الأرض رجة عنيفة تحت قدميها .. طائرات تقذف بالحمم .. إنها النهاية , اسود الفضاء .. انعدمت أمامها الرؤية ... تجمدت حركاتها .. تلبست بالأرض .. الطائرات تعيد الكرّة . هل عادت أحداث " رام الله " ؟ يومها انتفضت المدارس والمعاهد العليا ... طوّق جيش الاحتلال مدرسة البنين , كنت مع جمع من التلامذة والتلميذات في ساحة المدرسة ... أطلقوا علينا البنادق . ضربونا بالهراوات , حاصرونا في الداخل , جابهونا بالقنابل المسيلة للدموع فأصيب الكثير منّا وجرح أحد التلاميذ جروحا بليغة برصاصهم ... ها هي تحت رحمة الخالق , جرّدها الخوف من كل حواسها , العرق ينساب من كل جسمها , صار وجهها قناعا كئيبا ... شاهدت جثة رجل .. اقتربت منها زاحفة على ركبتيها .. استقرّ بصرها على الجثة .. حاولت أن تقف على رجليها لكنّها لم تقدر .. تصاعد الصياح والعويل ..الأرض جريحة والبحر دموع ... أم سليم فقدت الحركة , أصابتها الشظايا .. هاهي تجر جسمها جرّا بطيئا , لم تعد قادرة على الصياح , أصابها البكم , أم سليم جسم مشلول , رائحة القنابل واللّحم المحروق تحملها على الغثيان . ليس لها سوى يديها . سدت أنفها بكفها , وتكورت فوق الرمال غير مبالية بجروحها ولا بدمائها . كان الشاطئ نداء ملحا في داخلها , تصل الماء .. ملوحة البحر تلسع جروحها , لم تتألم ولم تحس ... رجاؤها أن تجد "سليم" حيّا , لم يكن عقلها يتصور موته .. حدّقت في المكان الذى تعوّد أن يلعب فيه , دارت حول نفسها دورانا حلزونيا , لاحظت تغييرا في هيئة الشاطئ ... شقوق عميقة في الأرض . بحثت طويلا , بلا جدوى , وقعت يدها على فردة حذاء صغير حدّقت فيها , عرفتها فردة سليم ؟؟ قبلتها , ضمتها الى صدرها , ضمّختها بدموعها . حفرة عميقة سوداء , أجسام فحميّة , العالم فوضى والوجود حطام . دسّت وجهها في التراب , هذه المادة التي كانت تداعبها منذ ساعة , هي الآن تمرّغ فيها وجهها فتعفره , اعتراها قيء قوى واشتدّت عليها الآلام وأصابها دوار وفقدت وعيها .
** ** **
دخل عليها " أبو ذراع " ومعه ابنها سليم معصوب الرأس يحمل باقة زهور .. فتحت عينيها ... حدّقت مليا غير متيقنة لما تشاهد , لم تع هذه اللحظة .. رفعت رأسها وجذبت طفلها في حركة عنيفة وصاحت :
- ابنى سليــم ! سليــم ! - ريم العيساوي

L’image contient peut-être : une personne ou plus, arbre, plein air et eau
L’image contient peut-être : Reem Aissaoui, assis

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق