كل الشكرللقاصة أم صباح صباح على قراءتها لأقصوصتي "فاكهة تامالا" ضمن مبادرة الطرد للمبدعة م.زنوبيا الأسدي
"فاكهة الجمال والتحولات.
هنا ليس أقصوصة و سرد ورشق جميل بالحروف بل لوحة سريالية مليئة بالجمال، زاخرة بالألوان، رسمتها ريشة فنان يعرف سر خلط الألوان، و هذا ما جعل منها شيئا مذهلا فهي تمنحك ازدواجية في القراءة بمعايير الكاتب والرسام،
فالعنوان وحده يشكّل لوحة و مرآة للسرد، فالقارئ يدرك من الوهلة الأولى أن القصة تتمحور حول الفتاة "تامالا" الفاكهة ،و المرض لم يكن إلا محطة و مدخل لسرد علاقتها بصديقتها، بل العلاقة هى المحور، فالساردة عندما أعادت النبض لذكريات طفولتها المؤصدة مع تقلبات الحياة أرادت أن تقول أن عشقها للسمار و الشوكولاتة فطري تتلقفه من قديم وكأنها بذلك تؤطر للوحتها الزاهية الألوان، ليس ديناميكية الصداقة التي تربط ما بين الساردة و تامالا هي وحدها المحرك الاساسي للسرد، بل الأمكنة لها رائحتها و نصيبها فالكاتبة قد تمكنت من وصف أجواء المكان التي نشأت فيه بذرة الصداقة الأولى وكذلك الأجواء المفعمة بالجمال الإفريقي البكر، و ذاك التضاد الجميل الذي ساعد في التحامهما أكثر وتوطيد الصداقة التي كانت المنقذ والتي جعلت من براثن المرض الخطير ليس ألا تحدي جديد لعبور العلاقة الإنسانية لآفاق أرحب، باختصار هى لوحة حالمة نابضة بالحياة.
#فاكهة "تامالا سرد رشيق مفعم بالجمال.
الأقصوصة
فاكهة "تامالا"
مضت الأيّام الأولى على عودتي من السّفر رتيبةً مُملّة، ألزمُ غرفتي لا أبرحها أرتعد كلّما سمعتُ عويل صفّارةٍ مجنونةٍ تنذر الجيران بملازمة مساكنهم ..كيف لي أن أتحمّل هذا السّجن العفن؟؟ حتّى الشّرفة المزخرفةُ بأكاليل الورد لم تعد تُغريني بشرب قهوتي المعتّقة على أنغام فيروز"خلّيك بالبيت"..
اِشتقتُ كثيرا إلى صديقتي "تامالا" الكونغوليّة.لم نفترق أبدا طيلة دراستنا بكليّة الفنون الجميلة بتونس.
تقاسمنا نفس الغرفةِ و نفس الرّغيف و نفس المشروع الفنّيّ..
ألحّت عليّ مرارًا أن أصاحبها في عطلة إلى عُمق القارّة السّمراء فلم يتحقّق ذلك إلاّ بعد أتممنا سنوات الدّراسة..
تركت "تامالا" بين أغمادِ الموز الملتفّة كالحلزون في "برازافيل" تمرح و ترتع على ضفاف النّهر تشدو مع ألحان الخرير ..حبيسة غرفتي أقصّ و أخطّ و أمحو و أخلط الألوان و أسكبها في حركات هستيريّةٍ على الأوراق دون أن يتّضح الرّسمُ.ألفيتُني قافلةً تذوبُ في السّراب.. لاحت لي "تامالا" بين فسيفساء الدّوائر و المكعّبات..غطّستُ بعض الأعشاب في خليط ذهبيّ و ألصقته على لوحتي و طفقتُ أردّد قول "الرّصافي"
" إن رمتَ عيشا ناعمًا و رقيقًا فاسلك إليها من الفُنون طريقا"
و بدأت أغيبُ بين أدغال نوتاتٍ موسيقيّة متناثرة على صفحةٍ زرقاء تذروها رياح كستنائيّة..
لمعت زمرّدة في العمق فاتّسعت حدقتايَ و حملقتُ أكثر...مددتُ يدي الملطّخة بالأصباغ لالتقاطها..
أين أنا؟؟ ذُيول الزّعانف تُحيط بي من كلّ جانب..فقاعاتٌ هوائيّة تنبعث في القاع..سمكات صغيرةٌ يندفعن سابحاتٍ تتلألأ أجسادهنّ في قعر أزرق بين ثنايا الأحجار المتكوّمة التي يكسوها فروٌ طحلبيّ ناعم ..
سمكةٌ مقصّبةٌ تناديني من بعيد بِدلال زئبقيٍّ.. تختلجُ
و تتمايل وراء عشبة تيجانيّة على إيقاع الحفيف..إنّها "تامالا" بألوانها البرتقاليّة و الصّفراء المرقّطة بالسّواد. تتحرّك بعصبيّة نحو القاع فتثور حبّات الرّمل كأنها التّبر المنثور فتبعدُ عنها قطيع السمكات..لم أحسّ أبدا أنّ "تامالا" مختلفة عن الآخرين لكنّها في هذا العالم الخرافيّ تبدو ملكةً جافاها العرش..
أتذكّر أنّها كانت تبكي بحرقةٍ كلّما سخر الطّلبة من ألوان لباسها.. فتتشبّث مُستأسدةً بأذيال ثوبها و تقسم"لن أخلعَ سترة عروس القارّات" فأردّ ساخرةً:"لن أعيش في جلباب أبي" ثمّ أقبّل جبينها بحبّ جارفٍ فتدغدغ أنفي رائحة الكاكاو..كنتُ أشمّ فيها رائحة عشقي الطّفوليّ ابن الجيران الأسمر "مسعود".. لم يقبل أطفال الحيّ أن يشاركنا ألعابنا فاجتنبوه و رفضوا مجالسته في المدرسة..كنت أتحيّن الفرصةَ لأداعب وجنتيه ثمّ ألعقُ أصابعي بِنهمٍ..كنتُ أظنّ أنّه طلا نفسهُ فعشقتهُ عشقي للشّكولاطة إلى أنْ ساحت ذكراه في قلبي مع اشتداد لهيب السّنين..
لماذا لا تقتربين"تامالا"؟ لم تبعدين عنك بقيّة الأسماك؟بم تتفوّه شفتاك البلّوريّة؟ اِقتربت منّي بعض الأسماك ملاطفةً فاهتزّت"تامالا" و رفرفت بزعانفها محذّرةً و بلغَ أثيرُ صوتها عبر الفقاعات"إنّهنّ ينفثن غازًا سميّا قاتلا كلّما حلّ وافدٌ غريبٌ مختلفٌ و هذا ما جرى معي ..فابحثي عن ملجإ آمن"
فيمَ أختلف عنك "تامالا" الحلوة السّمراء؟ كنت أردّد على مسمعها نفس السؤال متودّدةً فيستفزّني رنين ابتساماتها " أنت صديقتي بطّتي الأسطوريّة" ..فأنظر في المرآة ..وجدُتني برميلا مكوّرا زوّقت جنباته بِهندام أنيق و حُشيَ فؤاده بعشق تموّجات الألوان..لم أكن أجدُ مقاسي بسهولةٍ و لم يكن ذلك يُضيرني فلم أندب حظّي الذي أبعد عنّي نظرات العشق..لكنّني لعنتُ ذات مرّةٍ بائعةً حجبت عنّي أحدث الموضات مفتخرةً بقامتها الهيفاء..
اِختبأت وراء النّجيلٍ(عشبة بحريّة) الذي بدا كمرج أخضر يعجّ بفراخ الأسماك ..و كلّما اقتربَ عدوّ نفثتُ أصباغي..أخفيتُ جسمي الضّخمَ وراء أوراق شريطيّة مزركشة،لها فروع مدبّبة كعيدان الكبريت يعشّش فيها المحار..غير بعيد شعب مرجانيّة نصحتني "تامالا"أن أبحثَ بين هاماتها عن فاكهة الخلاص"سينجارا". برقت كماسةٍ بثمارها وسطعت فوهات مياهها فقبضت عليها و جعلتُ أترشّف فقاعاتها الصّغيرة. ألهثُ، ألهثُ حتّى طفوتُ على سطح المياه..
وجدتني طريحةَ الفراش أتنفّس بصعوبة و قد جفّ حلقي تزوّدني آلة عظيمة بالأوكسيجين لا أرى أمامي إلاّ لوحة جداريّةً غصّت بالألوان تهيم بين تعرّجاتها كائناتٌ بحريّة عجيبةٌ..وصلني رنين هاتفي فأجابت أميّ مطمئنةً وراء ستار بلوّريٍّ" لا تجزعي "تامالا" ستنجُوان من هذا الوباء و سيقام معرضكما في رواق "بيكاسو" في مدينة الفُنون..عودي متى تفتحْ الحدود و سيورقُ غصنُ الحياة .."
حنان الرقيق الشريف 23/03/2020
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق