صفحة من الذاكرة
صفحة أخرى من الذاكرة ، ووقفة جريئة لأنّها بلا موعد وبلا استئذان، سمّها اعتباطا إن شئت أو أعطها صفة العفوية الساذجة ، ولا أناقشك في أيّ وصف، لأنّني أحسست يومها بطلاقة وتّخلص من قيود كانت تكبّلني من سنين .
أحسست بالخلاص من عبء كان يرهقني حمله ، وكنت أخاف عليه من الضياع والنسيان ، قبل تلك الوقفة كنت حيرى لا أعرف نفسا أمينة أودعها أوراق حياتي فترعاها بعناية وثقة .
أيّ رغبة وضعتني أمام شيخنا الجليل - رحمه الله – محمد العروسي المطوي ، وقفة لم أع فيها ما اعترى نفسي من مشاعر ومعان مكثفة متداخلة مزيج من إحساس بالذات وإحساس بالضآلة وشعور من التهيّب والخجل والأمل والطموح .
لا أدري إلى يومنا هذا ذلك السرّ الذي حدا بخطواتي إلى الصعود إلى مكتب الشيخ والوقوف أمامه مثل تلميذة خجلى .
كانت نفسي مدفوعة بقوّة خفيّة ورغبة ملحة إلى الوقوف أمام الشيخ بعد أن كانت صورته من خلال نصوصه ذات هالة من إعجاب وانبهار ، وازدادت تلك الهالة إشراقا عند وقفتي أمام حضرته في اتحاد الكتاب ، فتحت الباب في حذر ولطف لكنّ الأنس جعلني أحسّ كأنّ لي ألفة قديمة مع المكان
و مع من يجلس على ذلك المكتب الذي بدا لي أنيقا ، فتحت الباب وكان الشيخ هادئا كما لو كان في انتظاري ، حيّيته بأدب وسلّمت له ملفّا يجمع قصصي كنت أقول عنها لصديقاتي عندما يعبرن عن إعجابهن :" أوف من سخافتها بعد مغادرتها الفكر " نعم هي بعض من سخافات الحياة ، سخافات الإنسان في خضم هذا الوجود العملاق وعند البعض هي سكرة الروح وجوهر الفكر الخلاق ونبض الروح الخالد .
كان شيخنا يسألني عن قصصي أسئلة الخبير بالنفس المبدعة ، لقد نفذ بحساسيته الشفّافة إلى روحي القلقة وأدرك حيرتي ورغبتي في الانعتاق ومعانقة فضاء الفكر ، علّي أجد فيه متنفسّا وخلاصا . وما بدّد حيرتي استقباله المريح وحنوّه الأبويّ ودعوته وإصراره على أن أحضر عشرينية نادي القصة ، فقبلت الدعوة بفرح واستبشار وكان أهمّ سؤال طرحه عليّ :- ماذا تعني الكتابة بالنسبة إليك ؟
فأجبته دون تعثّر و لا تلعثم:" الكتابة بالنسبة إليّ هي الخلاص من القيود ولا أعتبرها محدّدة بزمان ولا بمكان ، إنّها حركة الفكر الحيّ المستمرّ والخالد
والكتابة مثل الهواء والماء فيها من القوّة والجهد و مفهوم الكتابة فعل يستعصي عن الحد ّبالمفردات ولا تحاصره اللغة ، لأنّ الكتابة ذات مفهوم واسع ، يكفي للكتابة شرف التعبير عن تفاعل الذات مع الوجود والتعبير عن وعيها المطلق بمعانيه و قضاياه ، الكتابة تخلّص الذات الفرد من فرديتها وأنانيتها وتحوّلها إلى الذّات الجمع التي هي رمز للكلّ .
الكتابة أن ترى الكون بعيون كثيرة وأن تغوص في كوامن النفوس بلطف الحرف وقداسة الكلمة وشفافيتها وعمق المعنى ونبله ، الكتابة أن تعانق حلم البشرية الكبير المتمثّل في الحبّ والسعادة والخلود وتلك الأحاسيس النبيلة وتسمو بأجنحة من نور الإله .
الكتابة أن تلتحم بالتاريخ حتى تقدر أن تنزرع فيه ، وأن تظلّ الأسئلة متيقظة مع أنفاسك ، والكتابة رحلة لا استقرار فيها وبحث عن مجهول تتوق لكشفه والوصول إليه لمعرفة حقيقته .
عدت إلى البيت جذلى بعد أن وافق شيخنا على قراءة قصصي وإبداء الرأي فيها .
بتّ ليلتها ساهدة متململة ، والسؤال يؤرّقني :" كيف سأحضر هذا اللقاء الأدبي عشرينية ناد عريق تخرّج منه العديد من الكتّاب وأنا لازلت في بداية الطريق وأجهل أشياء كثيرة عن عالم الأدب وليس لي أدنى فكرة عن النادي و بداياته ومراحله وتطوره ورواده الذين سمعت عنهم كيف يحاولون تصغير الكتاب الجدد ويمتحنوهم بأساليب تهكمية مضحكة ؟
قلت في نفسي : ( الله يستر لازم نفكر كيفاش نتصرف) .
كان هذا اللقاء هو الخطوة الأولى لانتمائي لنادي القصة ،وعرفت من خلاله أشياء كنت أجهلها ووجوها كانت في الأيّام الأولى غريبة عنّي ، لكنّي سرعان ما ألفتها ، فصرت جزءا منها وكأنّي أعرف أفرادها من زمن بعيد .
تحقّق انتمائي لنادي القصة بصورة سلسة ، وكم كنت حذرة في مداخلاتي
، لكنّ شيخنا كان يشجّعني بقوله :" إنّك جئت جاهزة " بمعنى مسلّحة للدفاع عن رأيك أمام الأعضاء القدامى ، سلاح لا يكتسبه المبتدئ إلاّ بعد سنوات من الحضور والعمل الإيجابي .
لقد كان بعدي عن العاصمة لم يكن يمكنّي من الحضور في جلسات النادي لصقل موهبتي ، لذلك كانت عشرينية النادي دروسا أولى لتمدرسي ، نعم كان النادي مدرسة بالمعنى الكامل للمدرسة ، مدرسة لها خصائصها وأسلوبها وعاداتها وطقوسها .
إنّني أعترف بأثر هذه المدرسة على بداياتي وعلى تكويني وأنا أعتزّ كلّ الاعتزاز بانتمائي لهذا الصرح الثقافي العريق "نادي القصة " لأبي القاسم الشّابي الذي كانت منه البداية .
جلسات أيام السبت التي تجمعنا فيها فرحة الانتظار باللقاء هي أيّام مشوقة ، ننشد فيها الراحة بعد أسبوع من الكدّ والعناء . نقرأ القصص ، نشارك في تحليلها بأسلوب جدالي لا تكلّف فيه ولا صنعة ، التذوق وحده لسان حالنا والانطباعية هي خيط تفكيرنا ، يكفي أن يعطى أحدنا توضيحات حول اللغة ، حول الأسلوب والصورة والصراع والأحداث والعقدة والانفراج والشخوص ، وفي كثير من المرات تتحول القراءات إلى تحاليل نصية جادة ورصينة ، تبحر في أعماق العمل وتستخلص منه تلك الروح الفنية الراقية .- ريم العيساوي

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق