" قد يصدأ الذهب..ولا يصدأ الشعر..."
(لمسة وفاء للشاعر التونسي الكبير جلال باباي)
حاملاً روحه الموزعة الوجَع،الأنين والثبات يمضي الشاعر العربي التونسي القدير-جلال باباي-في مغامرة البوح،يقول القصيدة لتقوله لكنهما يبقيان،هو وقصيدته،عصيّان على القول. أما القصيدة بالنسبة إليه،فهي (الأنثى) بكامل أنوثتها وجمالها إذ تعبر أفياءه وتبني فيه خمائل من ياسمين -قرطاجيني تونسي أصيل-لا يمنع ورود العروبة من أن تتفتح إلى جانبه.
وهي التجربة الإنسانية النبيلة بكل أهميتها التي تبدو للشاعر مثل طيف غازلة ذات قصيدة تستقرّ في روحه الباحثة عن جغرافيتها وفراديسها الغاربة...
وهي المرأة-كما أسلفت- كل جوّانياتها ودواخلها وهواجسها وسرّانيتها التي تتهدّل بشفافية بين الكلمات...
لكن..
القصيدة تضيق أحياناً،تختنق وتعتصر بين أنامله،بل بين روحه المضمخة بروائح الغربة ووجوه الموت والوجَع،فتجترح أمداء أخرى فسيحة،وتذهب إلى قافيات متحولات تخترع من خلالها سحراً إضافياً يزيدها جمالا على النحو الذي يرضيه.
تلك توليفة عشقية لا يتقنها إلا شاعر متمرّس مثل جلال باباي، هذا الشاعر التونسي الذي يوزع جسمه الشعري في جسوم كثيرة،في نوع من الكرم الشعري (الحاتمي) لا يبزّه إلا كرمه الإنساني العابق بروائح الوفاء للأصدقاء الغائبين.(وأزعم أني واحد منهم)..
كائنات الشاعر لا تبدأ جسوم جلال باباي/ مجراته الشعرية الصغيرة بالمرأة التي تشهدها القصيدة وتشهد لها،وتشهق بها..ولا تقف عند تخوم الأصدقاء الجميلين الذين يحضرون بكل غياباتهم وبهائهم في المتن ويسطون على الهامش ليصبحوا شيئاً من روح الشاعر ودمه وشهادة،تشبه شهادته،على مرحلة لم تمنحهم سوى المرارة والخيبة التي أتقنت الحياة إنضاجها على نار المواجع،الخيبات والإنكسارات..بل تكتمل كائنات روحه، صغيرها وكبيرها لتجوب -حافية عارية-براري اللغة محمولة على ذاكرة وفيَّة،تصرّح وتلمّح،تخفي وتظهر،وتنام على مقول كثير يلتف في بياض الورق وفي بياض روحه التي ترفُّ في جميع قصائده.
وللقصيدة أيضاً اجتراحات أخرى بعيدة،تنقب في أقانيم الكلام عما يجعل القول شعرياً، والمسرود مرئياً،والمعنى الآتي على جناحي فكرة مجنونة وإن كان عابراً قابلاً للحياة في كلام (غير عابر).
في كونه الشعري الخاص يؤلف -جلال-بين كائناته بعد أن يزيل عن وجهها كآبات رحلة مضنية، ويحررها من شرائع العادي واليومي ليطلقها الى مدى يحفل بالحياة والمحبة.
تلك معادلة أولى في شعره: لكي تحظى أي حالة شعرية بشرف القصيدة عليها أن تقدم له العهود والمواثيق على أنها مجزية،غير عبثية ولا مجانية..
من هنا يبدأ رحلته التجريبية المحسوبة في جسدها مثل جراح ماهر،يستخرج الحي ويرمي الميت والسَّقَطْ،ويشيد مما تبقى جسداً يانعاً يصبه في قالبه اللغوي والفني وصياغاته البصرية العالية معلياً شأن السؤال،ثاقب البصيرة،مرهف الحس،قابضاً على جمر النار الشعرية التي ينفخها في قصيدته لتحيا.
دواينه الشعرية التي اطلعت عليها وأدهشتني حد الإرباك،ذات ملامح تجربة شعرية اتخذت من الرصانة لها نبراساً ومن أحلام الناس وأشواقهم الى الحرية والعدل والكرامة طريقاً من دون أن تبخس الجمال الفني حقه،معلنة لنا بكل قواها أن -الذهب يصدأ لكن الشعر الجميل لا يعرف الصدأ.-
وهنا أضيف:
ربما يتساءل الكثير منا عن ماهية البعد الوجودي في الأدب والشعر،البعد الوجودي عامل حاسم في تشكيل التوجه الفلسفي للكتابة الشعرية تحديدا،حينما تكون القناعات الوجودية للشاعر متشكلة ضمن إحساسه الشعري ستساهم بشكل او بآخر في توجيه الجملة الشعرية. ومن خلال تواصلنا مع القصيدة عند -جلال باباي-نجد ان القصيدة عنده تنحو لتأسيس خطاب إنساني داعم لفلسفة الحياة المبررة،الحياة التي استحكمت أسئلتها وتجاوزت مفهوم البحث عن الأجوبة،الحب في قصيدة -جلال-حب عقائدي لا حب عبثي،حب مؤسس على دعائم وجودية مبرهنة لا رغبات حائرة،القصيدة لا تتساءل عن مبررات الأنا بقدر ما تنشغل بتساؤلات الحياة،الحياة الكائنة ضمن حدث الخلق المستساغ.
لم أقرأ(وهذا الرأي يخصني)لجلال باباي قصائد تروج لأسئلة حائرة،بل تأتي طروحات القصيدة من خلال حميمية لوجود مبرهن ومبرر.
ويمكننا القول-أولا..وأخيرا-أن القصيدة لا تنشعل بأسئلة الوجود بل تتعامل مع الوجود كمنطق محسوم وتنزغ لتأثيث حركة الفعل الوجودي للإنسان.
قبعتي..يا جلال باباي يا من انبجست ذات زمن تونسي موغل في الآسى،من ضلوع مدينة-أكودة الساحلية-لتصوغ قصائدَ مقطَّرة من معاناة وجدانية.. لجيل مختلف..
محمد المحسن


ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق