الجمعة، 1 يناير 2021

الجزء 2- في دراسة أسماء بعض الأرباب بقلم الناقدة الدكتورة زهرة سعدلاوي

 الجزء 2- في دراسة أسماء بعض الأرباب[1]

"يُطلق المصري أسماء الأرباب وصفاتها وتجلّياتها على أخياره وملوكه وكهنته وأقاليمه ومُدنه ومُختلف أركان أرضه". وهذا الارتباط الحميم جعل عمليّة الفصل بين أسماء الآلهة والأمكنة صعبة، وإن خصّ المؤلّف كلاّ بجزء فذلك لسبب منهجي نظرا لكثافة المادّة وغزارتها.

 يناقش في موسوعته مثلا فصلا مُطوَّلا يَتعلَّق "بالربَّة "يت" (تانيت). فيعمد إلى دراسة الإسم بالتفكيك والتحليل والوقوف عند دلالاته وأهمّ رموزه. فالربّة"يت": "(تانيت) هي "المعبودة المصريّة الأولى التي حملها الأوائل من وطنهم الأوّل في الصحراء الليبية كبيئة طاردة لتكون على ضفاف الوادي الإلهي، كبيئة جاذبة، ربّتهم الأولى التي أجمع علماء المصريّات لا على هويّتها الصّحراويّة وحسب، ولكن على زمن عبادتها الذي أرجعه أغلبهم إلى عصر ما قبل الأسرات"[2].

وحسب اعتقاد المؤلّف فإنّ "والاس بدج" هو الذي أولى أهميّة خاصة بهذا الموضوع، فأوّل وافترض وتأمّل إلى أن توصّل إلى استنتاجه الشّجاع عندما قال في كتابه "ديانة المصريين" أنّ دلالة إسم نيت أو يت هو الواحد أو الوحيدة. وهي الدلالة التي لازالت حيّة في وجدان طوارق اليوم، حيث عبد القدماء في الكائنات المبدأ الأنثوي لاعتقادهم أنّه المبدأ الوحيد الذي نستطيع أن نثق بقدرته على إنجاب نفسه من نفسه، فقدّسوا المرأة انطلاقا من هـذا المبدأ وألّهوها كما هو الحال عند الطوارق كمجتمع أمومي ما يزال يضع المرأة في المركز الأوّل حتى يومنا هذا. وهي مكانة حازتها الأمّ وفقدها الأب إلى الأبد…[3].

ومن العلامات المرتبطة بالربّة "نيت" نجد العلامة المجسّدة في + التقاطع. وهي نفسها حرف t أوT، كما يكتب في اللغات الأوروبيّة اليوم بتحوير طفيف اقتضته ضرورة الرّبط بينه وبين الحرف الذي يليه في الكلمة الواحدة… ومن المُحتمل أن يكون ذلك الرّمز المرفوع على عمود، على شكل علم مثلث الأضلاع الذي يرمز للإلاه "نتر" والذي حيّرت دلالته العلماء، وأفرد له والأس بدج في كتابه فصلا كاملا، وعقدت مؤتمرات عالميّة في سبيل الوصول إلى دلالته. ذلك الرّمز ليس في الواقع سوى المثلث الدالّ على المعبودة الأولى مثبتا في عمود كي يُؤدّي ذات الوظيفة العمليّة التي كانت تؤدّيها البلطة أو القادوم، سيما إذا علمنا أن إسم هذه الأداة (البلطة) مستعار أساسا في لغة الطوارق من إسم الربّة يت… ويرجع الكوني ذلك إلى تلك الفترة المشبعة بالرّوح السحريّة والتي يميل فيها العقل البشري إلى تأليه النافع، لذلك قدّس البلطة كسلاح للدّفاع عن النفس، أو للقتال، أو لاقتناص الطرائد… واحتلّت هذه الأداة حيّزا في الحياة الرّوحيّة وصارت رمزا لربّة القنص[4].

وينتهي التحليل بالكوني إلى أنّ دلالة كلمة "نتر" تعني بكل بساطة: "المعبود" أو "التوسل"، أو "الابتهال"، أو "الدّعاء" لأنّها مازالت تجري على لسان الطوارق (أحفاد المصريين القدماء) بهذه الدّلالة حتى اليوم… ففي حين رأى "بيريت" أنّ معنى كلمة "نتر" هو التجدد، ذهب "رينهوف" إلى القول (في محاضرة له عام 1879م) بعد مقارنات مسهبة بين الكلمة المصريّة وبين ألفاظ يونانيّة وقبطيّة وعبريّة أن "نتر" لا يمكن أن تعني إلا "قوى" أو "قوة" زاعما أنّ هذه هي الدّلالة ذاتها التي تحملها الكلمة العبريّة الEL . ويخالفه الكوني الرّأي نظرا إلى أنّ مدلول الكلمة "يعني حرفيا باللغة المتداولة على ألسنة تلك القبيلة المنسية المعزولة، أو المعتزلة، التي حفظت لنا سرّ اللغة المصريّة القديمة (الطوارق) : المعبود، أو الذي يوجّه إليه الدّعاء[5].

ويغرينا الكوني بمزيد تتبّع هذا المبحث فيقودنا إلى أنّه "من هذه الكلمة ننال إسم "إيتران" الدّالة على النّجوم. وذلك اعتمادا منه على ما تحدّث به هيرودوت من أن"انترانتا" تتّخذ لأبنائها إسما عاما هو "نجوم يت" وأنّ الأهرامات قد أقيمت على غرارها وأن "ساو" أو"أساهو" المتحّدث عنه في الأسطورة هو إسم عاصمة إقليم نيت في الوجه البحري الذي أطلق عليه اليونانيّون إسم سايس، ممّا دعا "هنري بريستد" إلى التأكيد بأنّ "هذه المملكة البحريّة كانت تحت حكم ملوك ليبيا، وأنّها انصبغت بصبغة هؤلاء القوم. ثم إنّ رمز المعبودة "نيت" استعمل في الوشم كثيرا على أذرع الليبيين" (تاريخ مصر). وكعادته يراوح الكوني بين الدّراسة الزمانيـّة والآنيّـة[6] فيقرّ "بأنّ هذا الوشم الذي أشار له بريستد ما زال مطبوعا لا على أذرع الليبيين أو الطوارق أو سكان شمال إفريقيا حتى جزر الكناري وحدهم إلى يومنا هذا، تميمة منقوشة على كلّ المُقتنيات… ومُجسمة في هيئة مُثلث مُتساوي الأضلاع في زوايا الأبنية والمنازل والأضرحة ولا في معمار الشمال الإفريقي وحده، ولكن في معمار إسبانيا المحيط ومعمار بعض بلدان أمريكا اللاتينية كالمكسيك"[7].

إنّ التوليدات التي يعمد الكوني إلى استخراجها من اللّغة البدئية تقود كلّها إلى المقدّس وتبرهِن على عُمق الإيمان بالربّة التي آمن بها الليبيون الأوائل "فأطلقوا أسماء معبود تهم الأولى على الأقاليم والمدن والعواصم، وابتنوا الأهرامات أيضا تجسيما لرمزها المثلث المعتمد حتى اليوم، وابتدعوا الغناء ليعبر عن حنينهم الميتافيزيقي. وهي لحون فاجعة أطلقوا عليها إسم "أساهو" (أوأساهغ)، تيمّنا بمنظومة الأنجم السماويّة الثلاثة"[8].

وينتهي الجدل الذي خاضه "والاس بدج" حول معنى كلمة "نتر" بداية بـ"بيريت" ونهاية بـ"بروغش" مرورا بـ"رينوف" و"ماسبيرو"، وغيرهم إلى الاقتراب من الدّلالة "عندما أورد الكلمة اللاتينيةNETRA  كمفتاح يَصلح لتفسير "نتر" حسب اعتقاد بروغش. ذلك أنّ الكلمة اللاتينية مُستعارة من "نتر" وأنّ اللغات الأوروبية قد استعارت منها مصطلح الطبيعة NATURE لأنّ الطبيعة كمعبودة أولى رأى فيها الإنسان الأوّل ربا يتوجّه إليه بالرّجاء أو الابتهال الذي تدلّ عليه كلمة "نتر"من ناحية، وتمثله الربّة "يت" من ناحية أخرى كطبيعة أولى مطلقة مرئيّة، أو غير مرئيّة أيضا…[9].

ويخصّ الكوني موسوعته بفصل كامل يحدّثنا فيه عن المفاهيم القدسيّة الدينيّة الميتافيزيقيّة في "برت أم هرو" : الطريق إلى وطن الحنين"، وتعني كلمة "برت" الحركة، أو الذهاب. وهي مازالت تجري على لسان الطّوارق إلى اليوم بمعنى الطريق أو السّبيل. أمّا إم فهي إيمي التي تعني فم، أو مدخل، أو باب، أو معقل، أو حرم، ولعلّه بسبب القداسة عامل الطوارق الفم على أنّه عورة فابتدعوا في شأنه اللثام لا ليداروا به القيظ، بل ليخفوا به عورة الفم الذي كان سببا في طرد الخليقة من فردوس الرّوح كما يحدّثنا بذلك سفر التكوين"…[10].

- في دراسة بعض أسماء المدن والأقاليم

من بين أسماء المدن والأقاليم المرتبطة بالربّة نيت أو تانيت "نجد أنّ الإسمين اليونانيين" تانس وسايس" مستعاران من الإسم المصري - الطارقي للربّة… لأنّ حرف السين، في كلا اللسانين، كثيرا ما يتحوّل تاء لتصبح الكلمة تانيت بدل تانيس. كما قد يحدث العكس فتتحوّل التّاء سينا فتنتحل تانيت إسم تانيس… واليونانيّون لم يترجموا الإسم إلى لغتهم عندما استبدلوا الإسم المصري الطارقي "آخنيت" بـ"تانيس"… ولكنّهم اكتفوا باستبدال التَّاء الأخير سينا"… وكعادته يسعى الكوني إلى الشموليّة فيضيف أنّ تانيت قد عبدها الفينيقيّون عندما نزلوا شمال إفريقيا بعد أن دمجوا الربّة المحليّة بربّتهم عشتروت التي جلبوا عقيدتها معهم، حتى أنّ قرطاجة استعار إسم تانس التي ليست إلا قراءة أخرى لإسم تانيت… لتتحوَّل الكلمة في مراحل تاريخيّة تالية إلى تونس كما ننطقها اليوم"[11].

كذلك كلمة النّيل على حدّ رأي المؤلّف (التي اغتربت زمنا في اللسان اليوناني) هي بلغة الطوارق مركّبة من جزئين : حرف النّون الذي يدلّ على الملكيّة وحرف اللام الذي يعني الملكيّة ذاتها أي المالك أو صاحب الشّيء. وهي كلمة مُشتقة من فعل إيلا الذي إذا جرّدناه من حروفه المتحرّكة في البداية وفي النّهاية صار لاما عاريـة تحمل دلالة الإله أو الربّ الذي يملك كلّ شـيء[12].

- فاعليّة اللّغة البدئيّة في لغات العالم الأخرى القديمة

لقد عُرِف إبراهيم الكوني بثقافته الموسوعية، لذلك فلا غرابة أن نراه ينحو في هذا العمل الموسوعي منحى الشموليّة والغوص في دقائق الأمور، فانطلاقا من كلمة "النّيل" البدئيّة استعارت اللّغات الأوروبيّة مصطلحها الإلهي ابتداء من اليونانيّة القديمة ونهاية باللغات الهند أوروبية… فنجد اليونانيّين يطلقون اسم هليوس Hélios على الشمس… وهي كلمة مركّبة من كلمتين : الهاء التي إذا أضفنا لها حروفها المُتحرّكة صارت "إيها" التي تعني بالّلغة الأصليّة (طوارق اليوم ومصريّو الأمس) موجود في أو محشـو بـ[13].

واللاّم ما هو إلاّ الكلمة الدالّة على الإله، المالك، صاحب الشّيء والـ OS  إضافة يونانية لاسم العلم فتصبح الكلمة : حيث يوجد الاله…

كذلك كلمة آير= "إيلEL" الدالة على الربوبيّة وإذا استبدلناها بالنّون نلنا إسما ربوبيّا آخر هو "إين" المستخدم في لغة الطوارق كرديف للواحد الأحد. ويحمل ذات المدلول في اليونانيّة ein معنى "الواحد" وsein في الألمانية المركّبة من سين الاستبطان أو الجوهر مضافا إليها (إين) الدالّ على الوجود ليستوي المفهوم في عبارة تقول : "الملآن بالأحدية"، المستبطن بالواحد"، وهو تعبير رفيع حقّا جدير بلغز كالوجود من حقّ اللّغات الأخرى أن تحسد عليه اللّسان الألماني". "ويستعمل في السومريّة كرديف لكبير الآلهة. وهي مدلولات تطابق مدلولا خطيرا آخر هو الوجود[14].

وإضافة إلى أسماء الأرباب يرى الكوني أنّ كثيرا من الأسماء الأصليّة للمدن والأقاليم المصريّة اغتربت في اللّغة اليونانيّة وانتحلت أسماء يونانيّة. فاسم "كوبوس" يطلقه اليونانيون على إقليم بكوى (نتري) فلو جرد من حرف الواو والسين الدّالين على اسم العلم في اليونانية لصارت الكلمة كوبت".

  ويدخل الكوني هذه الكلمة في لعبة ما يطرأ على الكلمات من تغيير عبر الزمن (دراسة زمانية) فهذه الكلمة لو نطقنا فيها الكاف جيما ثقيلة كما نطقها أصحابها يوما لتحولت جوبت.

 ويواصل الكوني تحليل الكلمة صوتيّا حيث يفترض تجريدها من الواو كحرف علّة ينطق ولا يكتب (في اللغة المصرية الطارقيّة) ليجد كلمة جبت التي تعني في اللغة المصريـّة القديمة وكذلك في اللغَة الرَّاهنَة (الطارقية) القطع أو الاستئصال، أو البتر، وهو إسم يُعدّ من أقدم أسماء هذا الوطن العريق… ويستشهد المؤلّف بحجة "بلوتارخ" الذي يقول بالحرف "أن الإسم يعني في اللغة المصرية آنذاك البتر، أو الاستئصال أو القطع وهو ما يعنيه في لغة الطوارق اليوم أيضا[15].

ويُدخل الكوني في موسوعته طرفا ثالثا هي اللغة السومريّة حيث نجد أن كلمة اورك (أور-إكي) هي اسم مدينة من أولى مدن تلك الحضارة المجهولة الموغلة في القدمة وهذا أكبر برهان على وحدة السلالة بين الأمتين. فكلمة "أور" إسم بدئي مشتق من فعل : "أور" (يعتلي يبلغ الذروة) حتى صار رديفا لكلّ بنيان أو مدينة. أمّا ("إكي") فيعني الجذر بمدلوليه الطبيعي والمجرد. ومن خلال هذين المدلولين استعير إسم iraq (العراق) دون أن تهتدي الأجيال إلى الطلسم الذي تخفيه هذه التميمة[16].

ويوسّع الكوني قائمةَ الأوطان فيعرض علينا قراءة مُغرية في أسماء مدن إفريقية (آهجار وطن النبلاء)[17]…. وأخرى من الجزيرة العربية (مكة) : مشتقة من فعل "إكا" الذي يجري على لسان الطوارق إلى اليوم بمعنى "ذهب" أو "دب" أو"هاجر". وهو فعل بدئي مُوغل في القدم اشتق منه اسم الأرض أو الأسافل في "إكي" المستخدم كحجر الزّاوية في الديانة السّومريّة…[18].

 ولا يخلو تحليل المؤلف من وقوف عند معاني هذه المدن فـ"سبأ" مثلا تتكون من سين الشحن وباء الرّوح= المشحون بالرّوح. 

وكثير من الأسماء اليونانيّة وغيرها لها علاقة بالأسماء الطارقيّة (المصريّة القديمة) كاسم مدينة "أثينا"[19] الذي له أصل ليبيّ… وهي مصطبغة بصفة القداسة نفسها التي يرى بها العربي مكّة، أو اليهودي، "أورشليم".

في فصل "إل : أو المالك[20] يكثّف الكوني من الأمثلة التي تؤكّد أسبقية اللغة الطارقيّة على غيرها من اللغات الأخرى مثال ذلك "مسي" -"مسينغ-"مسينا" التي إذا حذفنا منها الميم الاسمية المزيدة في البداية حصلنا على الجذر س-ن (أو سين) وهو إسم دال على القمر في لغة سومر، وفي لغة الطوارق أيضا. ومن هذا الجذر انتحلت سنا، الكلمة العربية هذا المضمون تيمنا بفيض هذا الكوكب الذي كان يعبد كإلاه في مرحلة أقدم.

 وأكبر الإنسان البدئي القمر أكثر من الشمس لأنه بنوره يبدد الظلام في الليالي فيزيل الشعور بالاغتراب، لذلك أعطى الإنسان البدئي للضوء قيمة مستعارة من عالم الخفاء... واكتشاف الضوء كرديف للألوهة كان خطوة جسورة في سبيل الإنسان البدئي الظامئ إلى الله، كان لها الفضل في تحرير تفكيره الديني من أسر الظاهرة الطبيعية، واستبدالها بالمجرّدة أو بالجوهر الخالد...أي الخروج الحقيقي من مجال ما يرى إلى رحاب ما لا يرى…

نجد كذلك اللسان اللاتيني يَستعير الجذر (س.ن) حرفيا للتعبير عن الوجود كجوهر في esse. والجوهر نفسه مَوْجود في essentia بجذر (س.ن) الطارقي السّومري – المصري. ولا يكتفي هذا الجذر بنشر نوره على العالم القديم بهذه الهبات، ولكن نجد اللاتينية تستعيره في مصطلح scientia الذي يعني يعلم أو يعرف، أو العلم كاسم، في حين نجده بذات المعنى في لغة الطوارق وكذلك المصريين القدماء. كما نجد (س.ن) كمعرفة رديفا للضوء في الثقافة العربية الكلاسيكية "العلم نور".

ويتّسع هذا الحقل الدلالي ليشمل "النّور والله". فسمى اللسان العربي والعبري "الروح" ونجدها في ألسنة أخرى إيمان (م.ن) (كاللسانين الطارقي والمصري القديم). (3:1،7)[21].

إنَّ النصَّ عند الكوني أساسه الحجاج وغايته الإقناع، لذلك يكثر صاحب الموسوعة من الأمثلة والتحليل اللغوي الذي يفترض منهجا لغويّا علميّا فكلمة Hell تعني في الإنجليزية الجحيم مُستعارة أيضا من ذات التراث المُستمد من هليوس اليونانية لأن النور الكامن في الشمس يملك القدرة على أن يتحول نارا أوجحيما، وHell في الألمانية بمعنى الوضيء، أو المشعّ ممّا يدلّ أنّ هذه الشّعوب قد انتحلت الكلمة من أصلها في مصر حيث كانت تعبدُ كتجلّ إلهـي[22].

ومن الكلمات التي تعود في الأصل إلى اللغة البدئيّة مثلا نجد في اللاتينية أنّ كلمة Lumen مأخوذة هي أيضا من اللغة البدئيّة. فهي مركّبة من كلمتين Lu الدالّ على لام الألوهة، وmen الدالّة في اللّسان البدئي على النفس، أو "مالك الإيمان" إلى غير ذلك من الكلمـات التي استعيرت من هذه اللام الجليلة Light في الإنجليزية، وlicht في الألمانية و Lumièreفي الفرنسية...[23].

- في تحليل بعض الأسماء الأخرى: من أفرا ؟

حاول الكوني اعتمادا على مؤرّخين منذ العصور الكلاسيكيّة حتى اليوم الوقوف على سرّ إسم (إفريقيا) الذي عرف في الأوّل باسم لوبيا أو ليبيا… ويعني باللغة البدئيّة سليل الرّوح… وينتهي التتبع والاستقصاء بالكوني إلى أنّ كلمة أفرو (Afro) التي وردت في اللسان اللاتيني تعني الطوارق في المدلول البدئي للكلمة. وإذا كانت اليونانيّة قد أطلقت على المنطقة ذات الإسم Apra (بتحويل الفاء باء كاستبدال شائع في هذه اللغة)… فإننا نجد لها رديفا في اللغة اللاتينية عندما تحدثت عن  Natio afraكمصطلح يدلّ على أمّة الصّحراء ووصفت رياح القبلي الصّحراوية بتعبير- Africus-ventus أي الرّيح الصحراوية… وآفرا التي أطلقها اللسان اللاتيني على أهل الصّحراء لم يبتدعه من خيال وإنّما التقطه من أفواه أهل الصّحراء أنفسهم في ذلك الزمان"…[24].

أمثلة تتعلّق بأسماء آلهة شبه الجزيرة العربيّة في ضوء البدئيّة

يرى الكوني أنّ "الصّلة بين آلهة الجزيرة العربية السّابقة على ظهور الإسلام وبين مفاهيمها المخفيّة في اللغة البدئية حقيقة لا شكّ فيها… وهذه الآلهة ليست سوى تلك الأرباب التي نحتها العقل البدئي في مراحل تكوينه الأولى وهاجرت في لسان فريق الشتات الذي استقر في شبه الجزيرة العربية… فاللاّت : مثلا إسم مستعار من "ليليت" التي تتكرّر فيها لام الألوهة فتدلّ الأولى على الملكيّة (ذو، ذوات) وتدلّ الثانية على مبدإ "المالك" ذاته، مع إضافة تاء التأنيث وتعني الكلمة بلغة الطوارق اليوم، النبيلة، الحرّة، الربّة. وما زالت تجري على ألسنة حملة اللّغة البدئيّة في شمال إفريقيا(لهجة أهل المغرب) في كلمة "للاLala " أي مولاتي[25].

أمثلة أخرى تدل على وحدة اللسان = "الأتروية" كاستعارة من اللّسان الأوّل".

يعتمد الكوني في استدلاله على ما يذهب إليه في هذا الفصل على سفر التكوين الذي يروي في نهاية الإصحاح العاشر أنّه بعد الطوفان الذي حلّ ببني نوح كانت "الأرض كلّها لسانا واحدا ولغة واحدة… ونزل الربّ إلى هذا الشعب الواحد فبدد لسانه وفرقه… (1: 11-8)[26]

وعندما يتقصى الكوني اللسان الأول الذي ما زال يحيا في أفواه الطوارق فهو يعيد على حد تعبيره "الحياة لتلك اللغات التي كان لسان الأترو أحد أركانها العريقة في القدم والتي كانت جذرا للغة عظيمة هي اللاتينية التي توصف بالميّتة أيضا. برغم أن اللغة التي أنجبت كلا اللسانين استطاعت أن تقهر الزمان بفضل عزلة الصّحراء."

ويعتمد الكوني المدلولات التي توصل إليها "ماسيمو بالوتينو" في ستينات القرن العشرين تشفيرا لبعض النصوص المكتشفة : فإسم Etr-ur (أترور) نجد فيها يتر "Etr" التي تعني المبدأ المقدس الدال على الربوبيّة الذي نجده في كلمة "نترNtr" المصرية التي حيرت علماء المصريّات دائما (النون أداة إضافة). أما تركيب Ur (أور) فيدل على مفهوم العلوّ المكاني ويرمي في حقيقته إلى العلو المعنوي. وبهذا نكتشف المدلول في عبارة "الكيان القدسي الرّفيع[27].

 



 مواصلة لدراسة مأخوذة من كتاب زهرة سعدلاوي كحولي،"إبراهيم الكوني، الرّواية هي الحياة"، نشر نورNOOR[1] PUBLISHING , 2017 .

[2] موسوعة البيان، ج1. ص ص.44-45.

[3] موسوعة البيان، ج.1.ص ص. 50-51، وج2. من نفس المصدر، ص.16.

[4] خص الكوني "يت (تانيت) أو ربة التوحيد" بفصل كامل تحدث فيه عن حضورها ورموزها وأبعادها الروحية... انظر الجزء الأول ص43-117 وبقية من الجزء الثالث ص7-86.

[5] موسوعة البيان، ج1.ص.88.

[6] يفضل سوسير استعمال عبارتي:linguistique synchronique  أي ألسنية آنية وliguistique dichronique أي ألسنية زمانية. ويعتبر آنيّا كلّ ما يتعلّق بالمظهر القارّ (من دراسة اللغة)، ويعتبر زمانيّا كلّ ما له مساس بالتطورات. ويطلق سوسير كذلك إسم synchronie أي آنيّة وdiachronie أي زمانيّة على الترتيب على أيّة حالة من حالات اللغة وأيّة مرحلة من مراحل التطور. فاردينان دي سوسير، "دروس في الألسنية العامة" تعريب صالح القرمادي محمد الشاوش ومحمد عجينة. الدار العربيّة للكتاب، ص ص. 126-129.

[7] موسوعة البيان،ج1.ص90.

[8] المصدر نفسه، ص91.

[9] المصدر نفسه،93.

[10] خصّ الكوني "برت أم هرو": الطريق إلى وطن الحنين بعنصر مطول من الصفحة 118 إلى الصفحة174 من الجزء الأول من "موسوعة البيان".ذكر التأويل الذي يخص الفم في الصفحة 128 من المصدر نفسه.

[11] المصدر نفسه، ص.52.

[12] موسوعة البيان، ج1.ص.21.

[13] المصدر نفسه، ص. ص.28-29.

[14] "موسوعة البيان"، ج4. ص78

[15] موسوعة البيان، ج4.ص.41.

[16] المصدر نفسه، ص 224-225.

[17] المصدر نفسه، ص.270.

[18] موسوعة البيان، ج4، ص ص199-214. الفصل، سيرة مكّة،

[19] "تتكون كلمة أثينا من قسمين : أتي هو نفسه يت أو أيت إذا أعدنا الياء (كحرف متحرك قابل لأن يتقدم أو لأن يتأخر أو لأن يغترب نهائيا) إلى مكانه الصحيح السابق على حرف التاء، لنحصل بذلك على الإسم المبتسر،الصارم،المجرد،الشحيح في حروفه، والدال على الوحدانية في معناه… أما القسم الثاني من الكلمة فهو "نا" والذي لن يكون سوى نون الملكية التي تشترط وجود كلمة أخرى نجد أنها مفقودة هنا. وسر ذلك يكمن في حرف الألف الذي يلي حرف النون والذي يعني اختصارا لضمير الجمع العائد على المتكلم : نغ أو ننغ (بتكرار النون فأسقط اللسان اليوناني الغين لعسر نطقها، وأسقط النون الثانية اجتنابا لعسر اللفظ أيضا، فصارت الكلمة "أثينا" بعد أن كانت في الأصل "أييتننغ" التي تعني بالعربية "أتينا"، أي أيت مولاتنا أو يت ربتنا". "موسوعة البيان" ج1. ص193-194.

[20] "خصص الكوني فصلا للحديث عن" إل أو المالك "في اللغة البدئيّة وفي ما تلاها من بقية اللغات انظر "موسوعة البيان" ج2. ص ص7- 57.

[21] المصدر نفسه، ج2. ص ص.35-36.

[22] موسوعة البيان،ج1، ص30.

[23] المصدر نفسه، ج2.ص.41.

[24] م. البيان،ج1.ص ص.258-269 .

[25] موسوعة البيان، ج4، ص ص.225-226.

[26] يستنتج الكوني من هذا النص : "أولا أنّ لسان القبيلة البدئية كان واحدا وثانيهما أنّ القبيلة البدئية عندما تشتت إنما ارتحلت صوب الشرق. وثالثها أنّ تبلبل الألسن وتفرّقها لم يحدث إلاّ في مرحلة لاحقة تلت الشّتات بأمد طويل. رابعها أنّ هدف تأسيس البرج هو تثبيت علامة تخلد الإسم، وتكون دليلا على وجود السلالة يوما. وخامسها أن تفرّق الألسن يعني أنّنا لا نغترب عن الأغيار، إلاّ يوم نغترب عن لسان الأغيار. وسادسها: أن تفرق اللسان زلزال أكبر من مجرد الاغتراب، ولكنّه في الحقيقة لعنة أخرى تضاف إلى اللعنة الأولى المتمثلة في الخروج من فردوس الوطن المجهول". المصدر نفسه ص234.

[27] المصدر نفسه، ص ص.235-236



هناك تعليق واحد:

  1. دراسة حول "موسوعة بيان في لغة اللاهوت تعين أحباء قراء الكوني على فهم ما استغلق من أدبه."

    ردحذف