السبت، 30 يناير 2021

دراسة نقدية بعنوان: المفارقة والسّخرية من الإنسان النّاقص في القصة القصيرة "بنّ عالمي" للكاتبة خيرة الساكت بقلم الناقدة سهيلة حماد

دراسة نقدية بعنوان: المفارقة والسّخرية من الإنسان النّاقص في القصة القصيرة "بنّ عالمي" للكاتبة خيرة الساكت
===========
=================
الحدث: تعيين سكرتيرة جديدة، من فرط جمالها يعجز المدير عن التلفّظ بكلمات للتّرحيب بها افتتانا وانبهارا.
المدخل:
تلقيت النّص على أنّه قصّة قصيرة، غير أنّني ما أن شرعت بالقراءة حتى دخلت عالما مكتظّا بالرّموز والدّلالات و والأضداد و الثّنائيّات كالحياة والموت، والحبّ والعشق والسّجن والغربة، وتوهّج المشاعر واتقادها في مقابل تصحّر وبرود وملل وضجر وندم ورغبة في تحقيق رغبة وحلم بالتّغيير بإيجاد واقع آخر أفضل ... يأخذنا قطيع الثآليل السّوداء إلى فيض من المعاني والألوان، فحيث ما حلّ السّواد، يحلّ في الذّهن معه الغراب والخراب والدّاء العضال والمرض الخبيث الذي ليس له دواء، فالثآليل المزروعة هي في حدّ ذاتها مدلول وإشارة أيقونيّة للأمراض العضويّة، كالسّرطان الذي ينهش الأبدان، وينخر العظام، ويمتصّ الدّماء، كذلك الأمراض الاجتماعيّة التي تتسبّب في سلب القطيع البشري، من الإرادة، يثبت السّارد معنى القطيع بذكره لسلك المديرين وسلك الموظّفين
("جميع الموظّفين مشدوهون"،
"زملاؤه من مديري المؤسّسات ")
* "يضحك الزّملاء سارّين الأمر في نفوسهم" و
* "يقف جميع الموظّفين مشدوهين" * "و"عيون الموظّفين شاخصة إليها"
مفهوم القطيع يحيلنا إلى مفهوم الانسياق بدون إرادة، وراء رمز قائد، حتى وإن كان غير أهل للقيادة، فالأفراد بمحض إرادتهم في البداية، يسلّمون رقابهم، طمعا في الحصول على سعادة موهومة، ثمّ فجأة، وفي لحظة تاريخيّة فارقة، بعد أن تخيب آمالهم، ويتّضح لهم أنّهم انخدعوا، وأنّ ما كانوا يطمحون إليه لا يساوي شيئا، أمام السّعادة الحقيقيّة، غير أنّ انجلاء هذه الحقيقة لا يبصرها الرّاكض، وراء الرّغبة، ولعبة الكراسي، المتلهّف لنيل مصلحة ما.
الموضوع:
ابتدأ مسيرته المهنيّة بالغشّ، والتّملّق، والتّقرّب من رئيسه، تزلّفا لنيل رضاه، عبر إيهامه بعشق ابنته، إلى أن نجحت خطّته، وظفر بها زوجة، ونال بها مبتغاه، فحصل على أعلى المراتب، وارتقى بها الدّرجات، ثمّ اكتشف- بعد أن استوى على صهوتها، وحقّق مراده، ومآربه، التي أوصلته إلى العزّ، والمجد الذي ما كان ليصل إليهما لولاها - أنّها لا تصلح زوجة، لا بل قد انتبه إلى أنّه تورّط، بالرّغم من أنّه كان قد كتب فيها غزلا... لكنه كان هجينا، مسخا، بفعل السّلّخ، والسّرقات الشّعريّة والرّتق والتّرقيع... إلّا أنّه كان بالنّسبة لها كافيّا ليجعلها ربّما تقدم على كسر مرآتها، التي قد تعتقد من فرط تصديقه، أنّهاكانت عاجزة أن تعكس مفاتنها، فاكتفت بعينيه مرآة لها...
مع الأيّام وروتين الحياة، استكثر عليها حتى أن تقاسمه السّرير، فحرمها الاستمتاع بشخيره، فتبضّع لها سريرا طبّيا، لتريح عليه ظهرها، الذي أرهقه الحمل بالضّنى بحجّة أنّه مازال راعيّا للودّ بينهما بالرّغم من موت والدها... نسيت وتناست حقّها في أن تحظى منه باهتمام تستحقّه، على الأقل لأجل حق العشرة، والمودّة، والرّحمة المطلوبة بين الأزواج، وما جرى به العرف والعادة، وما فرضته الشّرائع...
=
السّخرية في القصّة:
تظهر السّخرية في القصّة القصيرة التي بين أيدينا في عدّة مواقع سوف أحاول أن استعرض بعضها:
و"تجود بكلّ وقتها حتى تعدل مزاج المدير"
"قهوة ثم قهوة وراء قهوة أخرى وهكذا تحصّل بنّها على ماركة عالميّة وتمّ ترسيمها في الوظيفة "
إنّ استنجاد السّارد بفعل جاد في المضارع "تجود " بدا لي مشحونا بسخريّة مضاعة...
مفهوم السّخرية الأولى به من الاستهتار بالوظيفة في حدّ ذاتها، ومن العرفان إلى الحدّ الذي جعل من السّكرتيرة لا مجرّد غانية تسلّي سيادة المسؤول الكبير في المؤسّسة فحسب، بل تجود عليه من فيض كرمها من وقتها الثّمين الذي قد لا يقدر بثمن...
يحيلني اللّفظ (يجود) والمعنى (جوّاد) إلى (أحمد عبد الجوّاد) تلك الشّخصيّة الوهميّة التي ابتدعها نجيب محفوظ ذاك الفرد (الفاعل الجمع في صيغة المفرد) على رأي أحدهم الذي يمثّل شريحة من البشر في النّصف الأوّل من القرن الماضي، حيث كان رئيس العائلة مديرا فاعلا في بيته قادرا على الفعل، والتّفعيل، والتّهويم، والتّسويف، وبسببه ترسّخت شخصيّة (سي السيّد) التي سيطرت على ذهن الرّجل الشّرقي،الذي اقتصر دوره على تفعيل معنى الفحولة المفرغة من محتواها... ذاك المعنى الذي أورده السّارد عندما ذكر مفاخرة المدير بغزواته: "يفتخر المدير بمغامراته، ويستعرض فحولته معدّدا النّساء اللّاتي أقام علاقات معهنّ"،ليصبح المدير بذلك أضحوكة، يتندّر بها، وبيدقا في يد سكرتيرة، في الظّاهر فاعلة، مفعول بها في الحقيقة، تحركها نيران صديقة، "تنام الحمامة في شقّتها بجانب صديقها الأوروبّي"
ورد الزّمن، أزمنة لشرب قهوة، وراء قهوة، وراء قهوة، لتستحيل القهوة عنوانا للذّة في الزّمن، ونغما وروائح، تسكن المكان، في الحضور والغياب، وعنوانا لماركة عالميّة مسجّلة، تفيد هي الأخرى، مدى انبهار العالم اليوم بالماركات وبالمظاهر الخدّاعة، وبقضايا الشيكات بدون رصيد . رائحة القهوة ومذاقها تروّح النّفس في سيادة المدير، تدخل عليه البهجة والسّرور، قبل التّوقيع، والمواقعة، والوقوع في الفخّ ،إذ تعدّل مزاجه في كلّ مرّة لذلك، استحقت بفضل بنّها، أن ترسّم في الوظيفة عن جدارة، وبدون وساطة ... وهنا إشارة إلى الفساد الإداري- ووجود الرّجل غير المناسب في المكان غير المناسب- وفي كيفيّة عمليّة انتداب الموظفين والتّسميات، في الإدارات والمؤسّسات، التي تتوافق مع ما كان أشار إليه السّارد العليم، عندما أخبرنا عن كيفية بلوغ سيادته منصب المدير...
"بدأ حياته كموظّف بسيط، ارتقى فجأة من رتبة إلى درجة أعلى، بعد زواجه من بنت رئيسه في العمل التي تعلّقت به"
كما تظهر السّخرية على شكل:
مفارقة، كما جاء في الفقرة التي تسبق الخاتمة، "انطلق نحو العمل مغتبطا. رتّب كلّ شيء. إجازة عسل مع جميلته حجز إقامتهما في الفندق. ودفع ثمن هديّة لها قلادة ذهبيّة رائعة. سيعرض عليها الأمر وهو متأكّد من ترحابها بالفكرة .."
ما فتئ أن تبدّدت أحلامه وتبخّرت تاركة غيمة قاتمة موحشة كلّفته سمعته المهنيّة وشرفه :
"دخل مكتبه لا ورد ولا قهوة. السّكرتيرة غير موجودة، جلس على الأريكة بانتظارها" يتلظّى بطيب رائحة قهوتها، منتشيا بشذى عطر ورودها في مخيّلته، التي منحها المكان وجودا خاصا، عندما جلس على الأريكة الجديدة، خاصّة وأنّه اشتراها، نزولا عند طلبها، لتكون مريحة أكثر في جلساتهما الحميميّة كأنّ الأريكة تحوّلت ظلّا لسريره، الذي ظلّ طريقه بعد أن استظل بظلّ السّكرتيرة، التي أظلّته بظلالها أغوته إلى أن غيّبته في سرداب بمفرده يحرسه سجّان، مقتسما سريره مع جرذان المكان، كأنّه بذلك نال جزاءه وعقابه، على أثر خيانة عهد وميثاق بعد أن أقدم على طرد زوجته، من غرفة النّوم، مستترا وراء نبل مزيّف، كدموع التّمساح، بحجّة الامتثال لنصيحة الأطبّاء، باشتراء سرير وأريكة طبّية مريحة، تعاطفا مع حالتها، بحثا عن راحتها سعيا في تسكين آلام ظهرها، موسقا إيّاها، على الغرفة المجاورة ... واصلا بذلك عهدا مع الشّيطان، لتأريخ تاريخ جديد، للمتعة بأحلام لذيذة
يمارس فيها دور البطولة المطلقة، كفارس مغوار، يتباهى بفحولة موهومة، على أثر تغيير صهوة جواده، بجياد رخيصة من سوق (النخّاسين)، كأنّ تجارة العبيد قد نشطت من جديد، بعد أن اعتقدنا أنّ عهد العبوديّة والجواري ولّى وانقضى ، فإذا بالتّعيسات الرّخيصات ارتضين لأنفسهنّ أن يُبَعْن ويُشترَيْن، بأبخس الأثمان، وسمحن( للنخّاسين) أن يتاجرون في لحومهنّ ..في هذه القصّة نرى السّكريتيرة أصبحت في حكم ما ملكت يمين السيّد المدير، من السّراري المذكورات في الآية الخامسة من (سورة المؤمنون )
{والذينَ همْ لفروجهِمْ حافظون، إلَّا على أزواجهمْ أو ما ملكتْ أيمانهم، فإنّهم غير ملومينَ، فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادونَ}
(كذب كذبة وصدّقها)، بأنّه فعلا فارس أحلامها لذلك،
"خمّن أنّها ربّما تأخّرت لأنّها انشغلت باشتراء الملابس أو العطر أو شيء من تلك المنتجات النّاعمة التي تجعلها مميّزة"
كان يعتقد أنّها مغرمة صبابة بحضرته، والحال أنّها تعمل لحساب (نخّاس أجنبي) آخر وتنتظر بفارغ الصّبر متى تنهي مهمّتها وتنعتق من رفقته بل وتنعته بالأبله، مفارقة كان لها وقع طلقات رصاص، لا يعلم مصدرها وجّهت في اتجاهات مختلفة، خبر أحدث الدّهشة والارتباك لدى القارئ ، إذ لم يكن متوقّعا.. كتم هذا الأخير أنفاسه ولملم ( بنات أفكاره) جامعا كلّ خيوط القصّة من جديد، يتابع بقيّة الحكي، يحدوه الشّوق لمعرفة النّهاية، واضعا عدّةاحتمالات ...
توالت الأحداث حدثا وراء آخر.... كأنّ الصّبح يعلن عن قدومه، بعد ظلمة حالكة. انتظرنا منه غضبا من السّكرتيرة، فإذا به يبحث لها عن أعذار، كأنّه لم يخطر بباله أنّها من ورّطته بالإمضاء على وثيقة، ساعة انشغل بالتّحليق مع حمامته الزّهريّة، لحظة توقيعه مّا أوقعه في المحظور، فالأوراق التي كانت بين يديه صفقات.. ومشاريع.. وتحويلات لأموال.. كانت تستدعي منه تركيزا وانتباها، غير أنّ عمى بصيرته، وسمعته السّيئة النّتنة، في مواقعة الحسناوات، فاحت لذلك كان فريسة سهلة ولقمة سائغة، وقع في الشّراك بدون أدنى مقاومة. لم يخطر بباله أن تكون هربت مع صديقها، بعد أن ورّطته... ظلّ ينتظرها، ولمّا طُرق الباب توقّع أن تكون هي، فإذا به يفاجأ بالشّرطة الاقتصادية، تلقي عليه القبض بحجّة اختلاس أموال الشّركة، "فتح الباب بسرعة ليجد أمامه رجالا بزيّ نظاميّ، وضع قائدهم هويّته في وجه المدير قائلا :
الشّرطة الإقتصاديّة أنت متّهم باختلاس أموال المؤسّسة وتهريبها للخارج".
"سالت العبارات على خدّيه.أحد الحرّاس يصرخ فيه:
- كفّ عن هذا سيّدة تريد رؤيتك لديك خمس دقائق فقط أتفهم؟
تهلّلت أساريره قال في نفسه إنّها هي... مؤكّد... لقد اشتاقت لي... وقف مبتسما . مسح وجهه بيديه.. جال ببصره في المكان متأهّبا اختفت فرحته لمّا شاهد من بين القضبان زوجته تقف أمامه باكية حزينة "
سؤال يطرح لو أنّ هاته الأخيرة ونعني زوجته علمت بمخطّطه هل كانت ستزوره بهاته السّرعة؟...
نهاية شاءت الكاتبة أن تجعلها مفتوحة، تحتمل الشّىء وضدّه، قد يكون درسا وعبرة لمن أراد..
اعتمدت خيرة السّاكت، في قصّتها، تقنيّة المفارقة، والمقاربة في نطاق ديمقراطيّة الأصوات، في شكل نموذج، اقتطعته من الواقع، شكّلته واقعا تخييليّا، لعبت فيه اللّغة دورا رئيسيّا، في مداعبة الخيال خالقة صورة جماليّة فنّية للقصّ، جمعت بين الفصاحة والبيان وتدفّق المعاني، بأسلوب سهل رشيق فيه من الحكمة وبهاء التّطريز، وتكثيف الأحداث، والفكرة والموضوع والزّمكان وتفعيل الحواس والإحساس، ما يدعو للتأمّل، فقد حاولت أن توازي بين الحركة والفعل، والتّوقّف بغرض الوصف لمنح القارئ فرصة لاستجماع أنفاسه، للتّدقيق في شخصيّة و ملامح الإنسان النّاقص شكلا ومضمونا، بطريقة مقنعة ربطت بإحكام الحبكة، بفضل قدرتها على ربط الأسباب، بالنّتائج المتعالقة ببعضها البعض، المتراصفة بشكل متناغم، متناسق، متّسق مع الغاية والمقصد، منسجم مع الشّكل الإيقاعي للمتن، من حيث التّكثيف، والحذف، والاختزال، واعتماد دوائر سرديّة، تدور في مدار الحدث الرّئيسي، كرقصة مولاويّة، تدفع نحو إشراقة ذهنيّة، تلعب دور الدّهشة في القفلة.. فتدفّق السّرد لديها كان مثل ينبوع ماء تفجّر، من دون أن تفقد الحكائيّة بهجتها، ولا تحيد عن مسارها، ولا رونقها، ولم تله القارئ، عن المغزى من سردها، كلّ دائرة شكّلت عنصرا مساهما في مزيد توتير المتلقّي ومشاغبته، مّا دفع به للتّفاعل، مع كلّ رمز ملفوظ لفكّ شفراته، كلّ مشهد معروض بثّت فيه من روحها، بشكل جعلته يتحرّك، بفعل حسن انتقاء الأفعال المشحونة بالحركة، ما ساهم في دفع الحدث الذي آزر شاعريّة القصّ، والتّشظي والاسترجاع والتّوقّف للتّنفّس بالتّأمّل من حين لآخر، في رسم ملامح شخصيّة تمثّل الجمال، والرّشاقة، والفتنة أو القبح والوضاعة، في أبشع صورها، من دون أن تنسى "عيون الموظّفين" القطيع المنساق، التّابع المسلوب الإرادة، في شكل ومضة من دون الدّخول في التّفاصيل تأكيدا على أنّ الأخلاق انهارت بسبب الصّمت، ذاك (الشّيطان الأخرس)... كما لعبت على دغدغة المشاعر، في تصوير أناس أعدموا أحاسيسهم، لفائدة مصالحهم الخسيسة والدّنيئة .. فالكلّ يحاول أن يُوقع بالكلّ، ويظنّ أنّه الأوحد الأحد، في الذّكاء الخارق، منحت الكلّ الفرصة عبر السّارد، والحوار للتّعبير عن حقيقة مشاعر كلّ واحد منهم تجاه الآخر، الذي كان مختلفا عمّا يتظاهر به، ويظهر في واقع القصّة..
نقلت لنا انتهاك الأخلاق، وتجاوزات بالجملة، في كلّ الاتجاهات، التي تنصبّ لفائدة الحدث الأصلي، الذي تنامى بشكل، خدمه الخبر المتدفّق، في شكل سيناريوهات متقطّعة، تخلّلها وصف دقيق لسارد عليم، تناغمت العناصر المؤلّفة للنّصّ بشكل أبرز مهارة التّأليف والتّوليف بين كل الدّوائر بشكل سلس في أسلوب لغوي رشيق ، لعبت فيه المخاتلة والتّشويق دورا مهمّا، سيطرت على الموضوع من الألف إلى الياء، حتى النّهاية كانت نهايات... عبارة عن ثلاث طلقات :
الطّلقة الأولى كانت مدوّية، صدمت المتلقّي بشكل غير متوقّع قلبت به كلّ الموازين، حدّدت الزّمن بذكرها، للحاسوب، وللهاتف الخلوي، وبطلقة تلو أخرى، أوصلت المدير إلى السّجن وبالرّغم من ذلك مازال غير قابل لرؤية زوجته حتى في السّجن يحلم بالحسناء التي نفثت له سمّها في العسل... وهي قمّة في المفارقة والمبالغة في السّخرية بطريقة صامتة....
الكلّ فاعل ومفعول به..... وقلّة من استطاعوا أن ينفذوا من هاته الدّائرة المغلقة، المُغِلّة للفكر المقيّدة للعقل، المشلّة للحركة، الموغلة في الإيهام بالعبوديّة، بسبب عدم القدرة في التّصرّف بحكمة في الانفعال بشكل يصرف عن الفرد الأذى، فالزّوجة وإن بدت لنا في القصّة ضحيّة غير أنّها كانت طعما لصفقة رابحة، بالنّسبة للموّظف والمدير على حدّ سواء...
في المجتمعات العربيّة مازالت المرأة غير المتزوّجة، تُرمى بصفة العانس بما في اللّفظ، من معنى للدّونيّة؛ فبزواجها هنا تخلّصت من صفة مقيطة، فحتى وإن لم تحقّق التّوازن والانسجام غير أنّه، كان الغطاء، الذي تمكّنت بفضله من تحقيق إنجاب الأولاد، لتضمن الأنس، والامتداد، والخلود المنشود، من الكلّ، لاستمرار كينونتها البيولوجيّة.
فالمرأة السّكرتيرة التي ظننّاها في أوّل القصّة ساذجة وتتصرّف بطيش من دون نضج اكتشفنا قبل النّهاية،
أنّها قامت بصفقة هي الأخرى حيث قذف بها عشيقها في أحضان مدير عجوز، متصابٍ مشهور بمغامراته، عديم الخلق و الأخلاق انتهازي، يبدو أنّه لم ينظر إلى صورته في المرآة ليعلم أنّ شكله وخِلقته ليسا أفضل من زوجته بدليل، أنّ أسنانه كانت كبيرة مصفرّة حتى أنّ السّكرتيرة، ضاقت به ذرعا ولم تعد تطيق رفقته وتراه أبلهَ.
لقد تفنّن السّارد في التّدقيق في بعض التّفاصيل الكريهة، حتى تشكّلت لنا صورة واضحة،عن ملامحه كما بالغت في رسمه بشكل كاريكاتوري، كأيقونة دلاليّة، على وضاعته وخسّته لمزيد تحقيره وتحقير كلّ إنسان ناقص من أمثاله، مفهوم النّاقص هنا يتعالق مع الكلّ في المتن وأقصد بالكلّ، كلّ الشّخصيّات بدون استثناء، كأنّ القاعدة هنا النّقصان والبشاعة والغشّ والسّرقات هي الأصل،
ومن منظور مظهر الإدراك بالإنسان النّاقص، لم يفتها أن تعرّج على السّرقات الشّعريّة، التي كثر الحديث عنها، في هاته السّنوات في الشّعر والنّثر، وإن كانت ظاهرة سابقة وجدت منذ القدم... وفي هذا ينشد طرفة بن العبد مبرّئا نفسه من تهمة السّرقة التي كانت قد لحقت به :
"ولا أغيرُ على الأشعارِ أسرقُها
عنْها غنيتُ وشر النّاس من سرقا
وإنّ أحسنَ بيتٍ أنتَ قائله -
بيتٌ يقال إذا أنشدته صدقا "
سهيلة بن حسين حرم حماد
الزهراء تونس / سوسة في 30/01/2021
============
===============
قصّة قصيرة بعنوان:
للأديبة التّونسيّة خيرة السّاكت
~ بُنٌّ عالميّ ~
تأتأ السيد المدير و لم يستطع أن ينطق كلمات الترحيب جيّدا.
أمام جمال السكرتيرة الجديدة يقف جميع الموظفين مشدوهين..
المدير رجل بدين أصلع الرأس ما عدى بضع شعيرات في المؤخرة تنبت في الرقبة أكثر منها في الرأس متجهة نحو الأسفل مع قطيع من الثآليل السوداء يبدو كجواميس بريّة تهرب من التصحر.
تتكاتف بطنه المكورة مع ولعه بالأكل و النساء فتجعله يشخر كخنزير بريّ.
يفتح باب مكتبه . يجلس إلى الكرسي . لايطيل التدقيق في الملفات . يطلب قهوة من بنّ سكرتيرته الجميلة ..
يترشف على مهله .ينهي القهوة.
تقفل السكرتيرة أزرار قميصها اللامعة و تخرج مع عقود الصفقات الموقعة..
السكرتيرة السابقة لم تكن على درجة كبيرة من الجمال . استبدلها بإحدى الموظفات المتربصات التي كانت تبالغ في التزيّن.. سخية في القهوة.. و تجود بكل وقتها حتى تعدل مزاج المدير..
قهوة ثم قهوة وراء قهوة أخرى و هكذا تحصل بنها على ماركة عالمية و تم ترسيمها في الوظيفة ...
أمام زملائه من مديري المؤسسات الأخرى يفتخر المدير بمغامراته و يستعرض فحولته معددا النساء اللاتي أقام علاقات معهنّ ...
يضحك الزملاء سارين الأمر في أنفسهم ..
بدأ حياته كموظف بسيط و ارتقى فجأة من رتبة إلى درجة أعلى بعد زواجه من بنت رئيسه في العمل التي تعلقت به ..
كان يكتب لها أشعارا مادحا جمالها الذي لم يوجد منه سوى وجه نحيل مصفر و شعر قصير مجعد و عينان غائرتان..
يقضي الليل في قراءة الصحف باحثا عن الأشعار المنشورة في ركن الثقافة..
بيت من هذه القصيدة و بيت من القصيدة الأخرى يتكون لديه شعر غرائبي هجين يبدو غزلا جميلا لدى فتاة عديمة التجارب...
مع أول سكرتيرة يحظى بها تأمل جسم زوجته ، وجهها ، كل تفاصيلها.. بحث عن شيء من الجمال فيها ..عن شيء تتشابه فيه مع السكرتيرة .
توقف عن التأمل و ولّت الزوجة أنظارها نحو أطفالها ..نحو مستقبلهم..
بقيت على ذلك الحال من الاهتمام بالأولاد.. تقدمت في العمر.. توفي والدها..
توقف المدير عن مبادلتها الأحاديث و الإجابة عن أسئلتها..
تستلقي إلى جانبه في الفراش لتريح جسدها
فيدير ظهره دون أن يستفسر عن حالتها ..
اشترى لها فراشا و مرتبة طبيّة.. وضعهم في الغرفة الأخرى..
" أخبرني الأطباء بأنه مفيد لمن يعاني من آلام الظهر.. "
استقبلت قراره برحابة صدر تاركة إيّاه وحيدا في الغرفة.. بطلا لأحلامه و عالمه الذي تسيطر عليه الجميلات..
تمايلت السكرتيرة الجديدة في مشيتها قاطعة الممر و عيون الموظفين شاخصة إليها..
ترتدي تنورة رمادية قصيرة تلتصق بجسدها مبرزة جميع تفاصيله و قميصا أزرقا سماويا
أطرافه مزينة ببعض الدانتيل المطرز
نصف صدرها عار و تتدلى من رقبتها قلادة من المجوهرات الحرة احتوت أشكال عصافير محلقة كصاحبتها التي ترفع نظرها إلى أعلى و تضع كل الدنيا بكفها..
حضّرت القهوة بنفسها. وضعتها على مكتب المدير مع باقة ورد أبيض في مزهرية بلورية
طغى عطرها الصاخب على رائحة الورد..
المكتب مثل غرفة نوم متزوجين حديثا..
طلبت من المدير تغيير الأريكة القديمة بأخرى أكثر أريحية و كان لها ذلك..
وصل المدير تتقدمه بطنه و ربطة عنقه.. الموظفون في مكاتبهم يتظاهرون بالعمل..
لا أحد تغيب أو تأخر...
دخل مكتبه مسرورا :
- كل الأمور على ما يرام! هات ماعندك!
وضعت الملفات أمامه و انحنت متعمدة أن تداعب خصلات شعرها الأشقر وجهه ..
قال منتشيا برائحة شعرها الشذية :
- اممم! لدي ثلاث نساء يجملن حياتي و يزدنها بهجة!
رفعت حاجبها مستنكرة :
- ماذا يعني هذا ؟ هل سأضطر لقتل أحداهن ؟
- أنت و الورد و القهوة..!
قال مبتسما مسفرا عن أسنان كبيرة مصفرّة..
أردف غامزا إيّاها :
- دعينا من هذه الملفات ، فلنشتغل على ملف آخر !
جذبها إليه فدفعت يده نحو الملفات قائلة بدلال :
- يجب أن توقعها ، نرسلها إلى الوزارة ثم نشرب القهوة معا..
هم بالملفات يوقعها بسرعة و عيناه متعلقة بها.
تسري الحرارة في جسده و ترتفع مع تزايد عدد الأوراق الموقعة..
وقع و وقع ..صفقات ، مشاريع ، أموال ، تحويلات ...
يمناه توقع و يسراه تتحسس فخذها الطري .
و سرعان ما انضمت اليمنى لمعاضدة اليسرى في اعتنائها بالحمامة الزهرية و التحليق معها..
تنام الحمامة في شقتها بجانب صديقها الأوروبي الذي يفتح حاسوبه المحمول و يدقق في بعض التفاصيل ..
تفتح عينيها بتثاقل :
- شيري ( عزيزي ) ماذا تفعل ؟
اقترب منها مبتسما. طبع قبلة على شفتيها و عاد إلى النظر إلى شاشة حاسوبه مرة أخرى..
- متى ينتهي كل هذا ؟ لم أعد أطيق رفقة ذلك البدين الأبله..!
- قريبا ..قريبا.. خطوة واحدة فقط حبيبتي ..!
رن هاتفه الخلوي ..
- نعم ...!
استمع قليلا إلى المكالمة..
- شكرا على المعلومة ..!
التفت إليها ضاحكا..
- لقد نجحنا ! هيا إلى عالمنا ..!
****
أخبر المدير زوجته بأنه سيغيب عن البيت لمدة أسبوع للقيام بشغل خارج البلد..
انطلق نحو العمل مغتبطا . رتب كل شيء. إجازة عسل مع جميلته. حجز إقامتهما في الفندق . و دفع ثمن هدية لها.. قلادة ذهبية رائعة.
سيعرض عليها الأمر و هو متأكد من ترحابها بالفكرة..
دخل مكتبه . لا ورد ولا قهوة . السكرتيرة غير موجودة.
جلس على الأريكة بانتظارها. خمّن أنها ربما تأخرت لأنها انشغلت باشتراء الملابس أو العطر أو شيء من تلك المنتجات الناعمة التي تجعلها مميّزة..
طرق أحدهم الباب ..قال في نفسه ها قدمت.
فتح الباب بسرعة ليجد أمامه رجالا بزيّ نظاميّ..
وضع قائدهم هويته في وجه المدير قائلا:
- الشرطة المالية و الاقتصادية..!
أنت متهم باختلاس أموال المؤسسة و تهريبها للخارج.
- لا! لا! في الأمر خطأ ما!
قبضت الشرطة على المدير دون أن تستمع لكلامه..
أودعته السجن ..قبع مبتئسا و قد سالت العبرات على خديه..
أحد الحراس يصرخ فيه :
- كف عن هذا! سيدة تريد رؤيتك.. !
لديك خمس دقائق فقط أتفهم !
تهللت أساريره ..قال في نفسه " إنها هي.. مؤكد.. لقد اشتاقت لي.. "
وقف مبتسما. مسح وجهه بيديه.. أجال بصره في المكان متأهبا..
اختفت فرحته لما شاهد من بين القضبان زوجته تقف
أمامه باكية حزينة.
.
Peut être une image de 1 personne et foulard

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق