قصّة قصيرة
ليلة الميلاد
مع تباشير الفجر الأولى استفقت على ضوضاء خانقة؛ فزعت، فتحت عينيّ، فركتهما؛ كدت أدميهما... أصدقائي كالثّكالى يولولون... يحثّ البعض التّراب على رأسه... يجري.. يدور... يندب حظّه.
انتبهت. ماذا؟! في الجنّة عويل؟! أ لم تكن تلك أمانينا و نحن نركب البحر في ذلك اللّيل الأغبش؟!
نظرت يمينا... شمالا... قلّبت نظري في كلّ الاتّجاهات... لم أر غير إرهاصات جنّة حقيقيّة: أشجار كثيفة في كلّ مكان... انشرحت قليلا رغم الضّيق و الإرهاق الشّديدين اللّذين هدّانا هدّا.
كنّا عشرات حُشِرنا في مركب صيد صغير مجهّز بمحرّك واحد قديم... تبرّمنا من الوضعيّة. جاءنا الرّدّ صاعقا: لا مجال للتراجع... لا يمكن إرجاع الثلاثة الآلاف دينار شقاء العمر... قبلنا على مضض. لم ينزل منّا أحد.
تزحزحت عن مجثمي قليلا. رجلاي.. رأسي.. كلّ ذرّة من ذرّات جسمي كالرّصاص... بصعوبة حرّكت كاهلي.
كانت ليلة قاسية جدّا... مسحت دمعاتٍ حارّةً نزلت على وجنتيّ. تذكّرت رفيق دربي... نشجت... صِحت بأعلى صوتي:" لا.. لا.. لا ترحلْ..."
مال بنا المركب بعد أن دخلته المياه من إحدى زواياه... جاهدنا لسدّ الثّقب بأيدينا ثمّ بثيابنا... أحدهم جلس على الثّقب. تلاه آخر و آخر ... ثقب أخر من الجانب المقابل... المياه تجتاح القارب... هرعنا.. صِحنا... استغثنا... أين سُترات النّجاة؟! ألححنا في السّؤال... كنّا نسأل و لا من مُجيبٍ... أينَ القائد؟! أينَ المساعد؟... المحرّك يتعطّب... المياه!.. المياه!.... نحن نغرق...
اعتمدت على يديّ. مسحت العرق المعروك بالدّموع... تلك اللّيلة أراها الآن بكلّ بوضوح... مازالت أصواتهم تصمّ الآذان... كانت ليلة نوء شديدة الحلكة. أ لم يجدوا إلّا تلك اللّيلة للانطلاق؟! أتذكّر كلّ كلمة.. كل صرخة و أنين...
"لا.. لا أريد ان أموت.. أمّي.. أمّي.."
بقي المركب عالقا بين الأمواج. قبل قليل أكّد لنا قائد الرّحلة بأنّه لم يعد يفصلنا عن اليابسة إلّا مسافة كيلومترات قليلة. و خُيّل إليّ أنّي رأيت أنوارهم تنادينا. بعد فترة يتعيّن علينا النّزول و التّفرّق في أرجاء الغابة حتّى نتفادى أعين حرس الحدود الإطاليّة، و الانتظار حتّى الصّباح، ثمّ علينا أن نتدبّر أمرنا بعد أن انتهت المهمّة كما ذُكر لنا.
"لا.. لا.. لا أريد أن أموت..."، كانت تلك آخر الكلمات التي سمعتها من رفيق دربي، رفيق الصّبا.. تمسّكنا بالقارب لمّا ضربته موجة عاتية و مال.. بقينا نجاهد... رفيقي سقط في اللّجّ العميق.. كنت محظوظا لمّا كان سقوطي بقرب المركب. تشبّثت بالحافّة... طفا رفيقي على السّطح... بصعوبة أمسك بساقي... جاهدت كي لا نسقط.. تمسّك بفردة حذائي... الحذاء يرفض التّشبّث بساقي... و.. لا.. لا ... يا إلاهي!... على ضوء القمر المنفلت توّا من بين السّحاب رأيته يغوص و يغوص... لم أملك الوقت للحُزن أو محاولة إنقاذه... تشبّثت بكلّ ذرّة حياة، و استطعت أن أعود إلى المركب كسيرا بعد أن أُفرِغ من المياه و عاد إليه توازنه.
رفاقي مازالوا يُوَلوِلون... يضربون كفّا بكفّ.. مسحت عينيّ الواهنتين.. استطعت أن أجلس القرفصاء... ثمّ استطعت أن أقف.. خطوتُ خطوتين.. مشيت مترنّحا إلى الأشجار... لا أدري ما سرّ هذه الألفة العجيبة التي اكتشفتها.. لكأنّي أعرفها منذ زمن... ولكأنّها جزء منّي...
خيوط الصّباح الأولى بدأت تفكّ طوق الظّلمة التي كنّا فيها... لم أعد أفهم شيئا... لا أدري ما أفعل... الظّاهر أنّني ابتعدت عن أصدقائي قليلا.. قفلت راجعا...
في الطّريق انتبهت إلى بعض نفر يمرّون بالقرب منّي... هرعت إليهم... وجدتهم ذوي بشرات سمراء و عيون سوداء... مثلنا تماما... لا يبدو عليهم أيّة ملامح إيطاليّة أو أجنبيةّ... تفطنوا إليّ.. و كمن رأوا عفريتا أطلقوا سيقانهم للرّيح... سمعت أحدهم يصيح:" مجنون!.. مجنون!... عفريت!..". ماذا؟! يتكلّمون العربيّة؟!.. بلهجتنا؟! أين أنا؟ لا أصدّق ما أسمع و لا ما أرى.
أشعّة الشّمس تلقي رداءها الأرجوانيّ على أرجاء المكان. و ما لبث أن أضحى صافيا نقيّا واضحا. جبت ببصري كلّ الأمكنة. لاحظت شيئا غريبا على التّخوم القريبة: رأيت البنايات و المحلّات واضحة. و استطعت أن أقرأ اللاّفتات الإشهاريّة بوضوح... ماذا؟!... ماذا؟!... لم نغادر تراب الوطن؟! اختلطت عليّ الأمور: أ أضحك أم أبكي؟! أ أفرح أم أحزن؟!...
أخيرا، و رغم الإجهاد انبثقت فيّ قوّة عجيبة... هرولت إلى الأشجار القريبة... لثمتها كما تلثم أمّ ابنها بعد غربة سنين... ركعت... قبّلت التّراب... داعبته بأصابعي طويلا... ارتميت على أقرب رفيق. تشبّثت به، و أشبعته تقبيلا. كان خائفا يطلّ الفزع من عينيه الواسعتين.. و في باله أنّني ربّما فقدت عقلي من أثر الصّدمة. و الواقع أنّني، و رغم الألم، في أعلى درجات الوعي و التّعقّل..
فلقد ولدت من جديد.
الطيب جامعي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق