مع المرحوم الشاعر الصغير أولاد حمد حبيب البلاد كما لا يحب البلاد أحد. (1)
إن الشعر الوطني محوره الوطن ،هو أنشودة الشعراء ومعزوفتهم الأثيرة ، وسمفونيتهم الحالمة بالحب والجمال والحرية وبالصفاء والأمل ، يشدون به
مركزين على القيم الإنسانية ويطرّزون به قصائدهم مخلّدين أثرهم و مآثر أوطانهم فاضحين أعداءهم ،متجاوزين ذاك الرباط الجغرافي المحدّد في المكان إلى روابط مقدسة تعزّز الميثاق الروحي والوجداني والإنساني في صورته المجردة .
وينهل الشعر الوطني في جوهره من معاني الحرية والعدل والحق ورفض الذل والتحدي هذه خيوط من إبريز يوشّي بها الشعراء جلباب القصيدة الملتزمة حاملين هموم المجتمع على أعتاقهم باثّين فيه الوعي ،شاحذين همّته.
ومن المتفق عليه أن الظروف السياسية الاستعمارية في مطلع القرن التاسع عشر أي العصر الحديث أدت إلى ظهور الشعر الوطني وولادة مفكرين وأدباء وشعراء حاملين حسا وطنيا عميقا ووعيا بروح الهوية والانتماء للذود عن الوطن ، وفضح مظالم المستعمر وكشف جرائمه ، .وهنا يرمي الشاعر إلى تشكيل وجدان الشعب وموقفه الشعوري إزاء الأحداث التي تحدق به .وهدفه أساسا تقوية ثقة الشعب بنفسه وإيمانه بقدرته على التغيير و الإصلاح من أجل حياة كريمة .
ورواد الشعر الوطني كثيرون على سبيل الذكر في ( مصر: محمود سامي البارودي، وأحمد شوقي، وحافظ ابراهيم، ومحمد عبد المطلب، وفاروق جويدة، وأمل دنقل. ومن تونس: أبو القاسم الشابي. ومن العراق: نازك الملائكة، وبدر شاكر السياب، وصلاح عبد الصبور. فلسطين: محمود درويش، وفدوى طوقان. سوريا: نزار قباني وغيرهم )
وصورة الوطن سمفونية ألوان ودلالات وإيحاءات من حرير المعاني وعبق الكلمات ، تتلون بوجدان كل شاعر وتنحت صورته من رؤاه وتطلعاته وأحلامه ،تراها عند أبي القاسم الشابي شرعة مقدسة ترتقي إلى رتبة العقيدة وهي تضحية وفناء في الوطن، عشقا خالصا واستعدادا لبذل الروح فداء له . وكثيرا ماجسد الشابي وطنه في صورة الحبيبة :
(َأنَا يَا تُوْنُسَ الجَمِيلَة فِي لُجِّ الهوى قَدْ سَبَحْتُ أَيَّ سِبَاحَهْ. شِرْعَتي حُبُّكِ العَـمِيقُ وإنِّــي قَدْ تَــذَوَّقْتُ مُرَّهُ وَقَرَاحَهْ. لستُ أنصاعُ للوَّاحي ولو متُّ وقامتْ على شبابي المناحَة. لا أبـــالي وإنْ أُريقتْ دِمائي ، فدماء العشاق دوما مباحة )
كما نراها في الدفاع عنه و توّعده للعدو:( حذار فتحت الرماد اللهيب * ومن يبذر الشوك يجن الجراح)
وفي نزعته الإنسانية بقوله : إذا الشعب يوما أراد الحياة * فلا بدّ أن يستجيب القدر
ومن لا يحبّ صعود الجبال يعش أبد الدّهر بين الحفر)
وهذه النزعة الإنسانية حققت لشاعرها الخلود، إضافة إلى إصراره على إذكاء الروح الوطنية في النفوس رغم الصد وقصيدة النبي المجهول تجسد حزن الشابي على صد شعبه له وعلى ما أصابه من هوان (إنّما عبرتي لخطب ثقيل قد عرانا ولم نجد من أزاحه )
صورة الوطن المستسلم الخانع فيثورعليه : فما لك ترضى بذلّ القيود وتحني لمن كبّلوك الجباه / وتسكت في النفس صوت الحياة القويّ إذا ما تغنّى صداه )
وفي قصيد الشابي « إلى طغاة العالم» يتراءى لنا غضب الشاعر ورغبته في التغيير الجذري، تلك الرغبة المشحونة بالثقة في المستقبل الذي لطالما رأى فيه شاعرنا مقبرة للطغاة وخلاصا للمظلوم فيهدد: سيجرفك السيل، سيل الدماء * ويأكلك العاصف المشعل
وكما يتغنى الناس ببيت الشّابي:
" إذا الشعب يوما أراد الحياة * فلا بد أن يستجيب القدر" ،فهم يتغنون ببيت أولاد حمد
نحبُّ البلادَ كما لا يحبُّ البلادَ أحدْ /صباحًا مساءً وقبل الصّباحِ وبعد المساءِ ويوم الأحدْ / ولو قتّلونا كما قتّلونا ولو شرّدونا كما شرّدونا لعُدنا غزاة لهذا البلدْ/ وعادَ إلى أرضنا الشجرُ/ وعادَ إلى ليلنا القمرُ/ وصاحَ الشهيد / سلام سلام على من صمد / نحبُّ البلادَ
لكي لا يحبَّ البلادَ أحدْ / ولو قتلونا ولو شردونا لعدنا غزاة لنفس البلد .
كتب المرحوم الصغير أولاد حمد، أول ديوان شعري :" نشيد الأيام الستة "عام 1984 في عهد الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة، وقد كشف الديوان ملامح شاعر متمرد وثائر ضد السلطة مما جعل النظام التونسي آنذاك يمنع توزيع ديوانه الذي بقي محجوزا حتى 1988
وبعد عام من نشر ديوانه الذي انتقد فيه بأسلوب شعري ساخر ومتمرد وخارج على المألوف اندلع في تونس ما يسمى بأحداث الخبز عام 1985 والتي ثار فيها الشعب ضد نظام بورقيبة .
في تلك الأحداث كان الصغير أولاد حمد واحدا من المتمردين على النظام بسبب احتجاجه على مظاهر الاستبداد وقد سجن لفترة قصيرة بعد توقيفه خلال اعتصام نظّم آنذاك للدفاع عن نقابة الاتحاد العام التونسي للشغل ثم طرد من عمله بإحدى دور الشباب.
توقف إنتاجه الشعري لخمسة أعوام في فترة مرت فيها البلاد التونسية بظروف خاصة بعد مرض الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة وتقدمه في السن إلى أن جاء مولوده الشعري الثاني بعنوان "ولكنني أحمد" بعد عامين من انقلاب الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي على بورقيبة عام 1987 .
في بداية فترة بن علي واصل النظام ملاحقته وطرده من عمله مما دفعه للسفر إلى فرنسا، وقد عاد مطلع التسعينيات إلى تونس بفكرة تأسيس بيت للشعر، تحققت سنة 1993 حيث أسس أول بيت للشعر في تونس وأداره من 1993 إلى 1997 .
كما خاض تجربة النثر من خلال مجموعة “تفاصيل” التي صدرت سنة 1991 و”القيادة الشعرية للثورة التونسية” سنة 2013، علاوة على العديد من المقالات الصحفية المنشورة في تونس وخارجها .كان المرحوم الصغير أولاد أحمد محاربا شرسا على عدة جبهات .
وفي ظل انتشار المحظور السياسي كان أولاد أحمد ينظر إلى الشعر بوصفه فعلا يؤسس لتحرر الإنسان من قيود السلطة، ويلخص هذه الوظيفة في عبارات مكثفة وردت بديوان "الوصية " المنشور سنة 2003 بقوله “إن الشعر ليس حرفة معزولة عن التكوين والتاريخ، بل فعل كينونة، متجدد باستمرار، لا معنى له خارج أفق الخلق الحر"
حاول نظام بن علي أن يكسب ودّ الشاعر بمنحه وسام الاستحقاق الثقافي عن فكرة تأسيس بيت الشعر.
لكنه رفض تسلم الجائزة، وبقي تحت المضايقات يكتب الشعر ويسخر من النظام رغم طرده من العمل بوزارة الثقافة التي كان يعمل بها ملحقا ثقافيا .
( وقد قال في حوار له سنة 2004 ساخرا من بن علي “كان لدينا رئيس يتكلم وُيمسرح خطابه والآن أصبح لدينا رئيس لا يتكلم ونسمعه مُسجّلا )
قبل اندلاع الثورة التونسية كتب قصائد شعرية استشرف فيها الثورة وهو ما جعل العديد من المراقبين يعتبرونه شاعر الثورة .
في المقابل، حصل على جائزة قرطاج العالمية للشعر عام 2011 وذلك في إطار الملتقى التونسي الإسباني الأول للثقافة.
نحن أمام "مسيرة أدبية صاخبة امتدت أكثر من ثلاث عقود، تخلّلها القلق والمنع والفرح والتمرد، امتهن فيها أولاد أحمد معاني جديدة للصعلكة الشعرية، مُعلنًا الخروج على سلطة الملوك والرؤساء ورجال الدين، ليجعل من الشعر حالة احتفاء دائمة بحرية الإنسان" .
لقد خاض المرحوم معارك عديدة ضد استبداد الادارة واستبداد الدولة واستبداد النقد الأدبي واستبداد التأويل الديني لكنه أعلن هزيمته أمام القدر المحتوم ( الموت ).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق