الجمعة، 30 أكتوبر 2020

مع المرحوم الشاعر الصغير أولاد حمد حبيب البلاد كما لا يحب البلاد أحد. (2) بقلم الأديبة ريم العيساوي

( 2)من المؤكد أن حب الصغير أولاد أحمد لتونس، حب متفرد نابع من إيمانه بقداسته ، وهو الذي يفنى ويحيا بهذا الشعورالذي كان علة وجوده ،وكم تغنى بانتمائه وحلم بلحظة التغيير :" لامَني الصمتُ على صمتي الطويلْ / وعلى خوفي من الخوف العليلْ / لم أكنْ وحدي أنادي / "ارحلوا الآنَ وفورًا...ارحلوا الآنَ "/ ..فكانوا يرحلون / تونسي مرة واحدة / تونسي دفعة واحدة أو لا أكونْ / أكتب الآن نشيدي بدمي / لشهيد كان صوتي وفمي / لغدٍ لم يأتني يا صاحبي منذ قرونْ / تونسيّ مرة واحدةً / تونسي دفعة واحدة أو لا أكون ).
وهو الشاعر الذي حمل جمرة التحدّي سنينا طويلة وهذه صورة من تحديه في الأسر وهو يهيم بحب تونس:" طويت سجونكم طيّا / وها أني هنا أقف وأعترف / أنا العرق المصنّف في موائدكم / أنا الأزهار والنوار والخزف / حيوط السجن مرآتي وصورة ظلي ميقاتي / وإخواني إذا هدفوا / أنا المشوار والهدف / نقابي ومعترف ومنضبط ومختلف / ونور الفجر ينظرني / وهذا الليل منصرف / أتتني القفة الأولى فلم أبصر بها قلمي /..
فتحت القفة الأخرى فلم أعثر على بلدي / أنا الربح المسجل في خسائركم / أنا الصدر صوت الباب ميقاتي / وخد الماء مرآتي".
ويحتدّ الشعور الوطني حين يفضح أعوان الحاكم المخبرين، بقصائد كثيرة منها قصيدته إلى المخبرين :" ليس للمخبر الآن أن يستظل بظلي /وأن يرجم الطير في شفتي / فأنا ملك الليل لا سر لي/ غير وجهي وحبري المراق على سورة العاصفة /..وليكن ما يكون / إنما ليس للمخبر الآن أن يستظل بظلي/ وأن يرجم الطير في شفتي / فأنا أحنو على المخبرين جميعا / وأقسو على شفة باردة .
وما تجسده صرخة الشاعرللاله سوى صورة عن حرقته ولوعته وحدة تألمه ومعاناته من القهر والاستبداد :"
الهي أعني عليهم /عقروا ناقتي وأباحوا دمي / في بيوت أذنت بأن لايراق دم فوق سجادها / الهي أعوذ بك الآن من شر أهلي /يبيعون خمرا رديئا ويؤذون ليل السكارى البريء /الهي لقد تم بيع التذاكر للآخرة ولم أجد المال والوقت والعذر كي أقتني تذكرة/ فمزق تذاكرهم يا الهي ليسعد قلبي /ألم تعد الناس بالمغفرة/الهي أريد جرادا لكل الحقول /ومحو جميع النقاط وقحطا لكل الفصول وطيرا أبابيل للاحتياط / صدقت الهي أن الملوك كما الرؤساء إذا دخلوا قرية أفسدوها /فخرب قصور الملوك ليصلح أمر القرى/ الهي لينبت دود مكان البلح/ ذهبنا جميعا إلى الانتخاب ولم ينتخب أحد من نجح / الهي حبيبي ويا سندي نشرت كتابا جديدا فبعه بلا عدد /الهي السجين لدى الأنبياء لماذا نزلت إلى ارضهم/وأسكنتني غيمة في السماء /الهي إذا كان لابد أن أدخل الجنة المشتهاة فلا تدخل الاتقياء معي /الهي أدلك فورا عليها على شفتيها على حلمتيها على اسمها العائلي على شعرها العسلي على ماتقول ولا تفعل/ اله السماء أضفها إلى سورة الشعراء/ الهي سمعت تقاة يقولون عنك كلاما مخيفا فحادَفــْـــتهم بالكتاب استوى حية لدغــَــتهم جميعا وعادت كتابا الهي العلي ألا يمكن القول إني نبي ؟؟
وتبرز وطنيته في شدة سخريته من الحكام فلم يكن خجولا من إبداء سخطه على الرؤساء والملوك، إذ ورد في ديوان " نشيد الأيام الستة "موجها الخطاب للرئيس الراحل بورقيبة “أنا لا أعشق الرؤساء لكني سأمشي في جنازتهم”، ويوسع الشاعر جغرافيا الازدراء لتشمل بقية الحكام العرب الذين يسحب عنهم أي غطاء للشرعية، واصفا إياهم في مجموعة "تفاصيل “هذه الأمة لا يمثل حكامها سوى زوجاتهم ورهط من مهربي المخدرات ومحتكري المعادن "
كما تمرد على سلطة الكهنة فهم يتطيرون منه ومن كتاباته لكونه يؤمن بإله أجمل من إلههم هكذا يلخص الكاتب التونسي سليم دولة –أثناء تقديمه لمجموعة “تفاصيل "
"المعارك التي خاضها أولاد أحمد مع رجال الدين ومناصريهم. كان جريئا في إرهاق الخطاب الديني بالأسئلة لينزع عنه حجاب التقديس وصبغة الإطلاقية، وتتواتر نبرة التشكيك في احتكار رجال الدين للحقيقة في أكثر من قصيدة، حيث كان الشاعر يتساءل في ديوان نشيد الأيام الستة “ماذا ستأوي النار والحجّاج قد نزعوا جرائمهم بمكة ثم عادوا؟”
كان أولاد أحمد يصف مشايخ الدين الأصوليين بـ”أصحاب المقاعد المحجوزة في السماء” و”سفراء الله” اقتباسا عن الفيلسوف الألماني نيتشه، فطارَده التكفير والتصقت به صفة الزندقة، وقد اتهمه الداعية يوسف القرضاوي بالإلحاد والتطاول على الذات الإلهية في كتاب له بعنوان “التطرف العلماني في مواجهة الإسلام”، وذلك على خلفية قصيدة “أدعية” الشهيرة التي نشرها الصغير أولاد أحمد سنة 2007، ومطلعها “إلهي"
والتي وظّف فيها المعطى الديني توظيفا فنيا الأمر الذي أثار حفيظة مفتي الإخوان المسلمين و يسخر من تفكيرهم :
"الريح آتية وبيوتهم قشّ/والكفّ عالية وزجاجهم هشّ/ لا تحزنوا يا إخوتي أبدا / إن شردوا طيرا يمضي إلى العشّ"
ومع صعود الإسلاميين إلى سدة الحكم في أكتوبر 2011 وما رافقه من اكتساح الخطاب الأصولي التكفيري للشارع التونسي، لم يكف أولاد أحمد عن معارضة تستر الإسلام السياسي بالدين لتحقيق أهداف سلطوية، وهو ما جعله عرضة للاعتداء بالعنف اللفظي والمادي من قبل مجموعة محسوبة على التيار السلفي في أوت من سنة 2012، وقد علق على هذا الاعتداء آنذاك ” تلقىت شيئاً من الثقافة التي يبشر بها السلفيون" .
و على خلفية مقال نشره سنة. 1984بجريدة الموقف تحت عنوان “الإيديولوجيا والتكنولوجيا” دعا فيه المؤذنين إلى حسن استعمال مضخمات الصوت، تعرض الشاعر إلى حملة شيطنة من قبل بعض الصحف المحلية ويعلق أولاد أحمد متهكما على هذه الحملة في كتاب تفاصيل “قادت هذه الحملة صحيفتان هما “العمل” و”الأنوار التونسية” ورمتاني بالكفر والزندقة والمروق وبنعوت قروسطية أخرى لم أر أكثر منها كفرا واستخفاف بالدين منذ مجيء الإسلام مثل قول أحدهم إني الشيطان ذاته. والشيطان فيما أعلم لا يلبس حذاء ولا يأكل ولا يكتب بالعربية الفصحى مثلما أفعل أنا .
مات محمد الصغير أولاد أحمد. الشاعر الثائر الذي كانت القصائد تسيل من جسده كما يسيل الدم من صدر فارس جريح في ساحة حرب، وظل معانقا قصيدة الوطن حتى لحظة الوداع الأخيرة ، حين لبى الخالق
مات محمد الصغير أولاد أحمد. الشاعر الثائر الذي كانت القصائد تسيل من جسده كما يسيل الدم من صدر فارس جريح في ساحة حرب، وظل معانقا قصيدة الوطن حتى لحظة الوداع الأخيرة ، حين لبى الخالق نداء روحه في المستشفى العسكري بالعاصمة ،ولم ينس تونس فخاطبها : (تونس/ سلّمتُ في الدُّنيا.../ وقلتُ: أكونُها:/ شعرًا/ ونثرًا/ ناقدًا/ ومُبشّرًا/... طولَ الفصولِ الأربعهْ/ أنْثَى/ وأمّي/ ليس لي .... قبْرٌ/ في المَا-بعْدُ/ (في الأُخْرى)/ سوى هذي الحُروفِ الأربعهْ). شاعر بمزاج العديد من الشعراء .
وبعد سنوات من المقاومة رحل الشاعر مساء 5 من أفريل سنة 2016 تاركا حزمة من الوصايا وحقولا من القصائد وصفها في ديوان "نشيد الأيام الستة “قصائدي جيش من الأحلام منتشر على الدنيا ".وودع قائلا :" أودع السابق واللاحق / أودع السافل والشاهق / أودع الأسباب والنتائج / أودع الطرق والمناهج / أودع الأيائل واليرقات / أودع الأجنة والأفراد والجامعات / أودع البلدان والأوطان / أودع الأديان / أودع أقلامي وساعاتي / أودع كتبي وكراساتي / أودع المنديل الذي يودع المناديل التي تودع ."


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق