قراءة في المجموعة القصصيّة حبر لا ينضب للكاتبة خيرة السّاكت
بقلم الأستاذة نجاة وسلاتي
لوحة فسيفسائيّة منحوتة بصبر وأناة . منحوتة أدبيّة صقلتها كاتبة بشغف وهي الّتي تطأ عالم الكتابة كعاشقة والشّغف يقود إلى الإبداع بداهة. عالم فريد مادّته الأولى الواقع الإنسانيّ بمختلف تشعّباته الاجتماعيّة والفكريّة والعقديّة والحضاريّة صهرته الكاتبة في بوتقة الإبداع فأخرجته إخراجا جميلا .
تلك هي المجموعة القصصيّة " حبر لا ينضب" حكايات عصيّة متمنّعة شخوصها هلاميّة التّكوين أو هكذا تبدو لك وأنت تقرؤها فتحاول أن تتكهّن بجنسيّة أبطالها . و تكاد تطمئنّ إلى أنّها شخصيّات ذات انتماء تونسيّ صرف إذ تستمع إلى "العاشق" يترنّم بأغنية مطلعها "شرق غدا بالزّين قلّي الملقى وين " أو تتابع خطّ سير نورة في " الوهم" من جامعة العلوم الانسانيّة إلى المكتبة الوطنيّة فالأرشيف الوطنيّ وهي أماكن يعرفها طالب الآداب التّونسيّ معرفة عميقة أو تأخذك حكاية حجر الرّجم إلى الجنوب التّونسيّ حيث الواحات تنتصب وسط صحراء مترامية الأطراف وتتدلّى من أشجار النّخيل عراجين التّمر ذهبيّة جميلة لكنّك تكتشف أنّك واهم فذاك بعض عالم عربيّ وهذا "الهواوي" ابن الجزائر يتغزّل ب"وهران الباهية" الّتي طرد منها على عشقه للمكان أمّا " رافاييلا لن تموت" فتجهز على اعتقادك تماما إذ تحلّق بك إلى عالم أوروبيّ تتصارع فيه العقائد والدّيانات و يتناطح الخير والشّرّ تناطحا عجيبا أمّا هايتي أو "مدينة الجوع" فقد تقفز بك إلى إلى الضّفة الأخرى من العالم حيث يشقى أحفاد القارّة السّمراء هناك تحت نير أشقياء يتمعّشون من خيرات سمراء لكنّهم على عشقها لهم لا يعشقونها وإن كانت "مستشارة الرّئيس"فكيف يعشقون سمراء وهم البيض أصحاب الملامح الشّقراء بل إنّك قد تخرق السّماء وتجاور الأفلاك لتخوض رحلة خاطفة إلى المرّيخ لتكتشف أنّ هناك من سبقك إليه كعقوبة و " لعنة" فتعود من رحلتك الغريبة و ما إن تطأ قدماك أرض اليابسة حتّى تجدك تائها في غوابّ عجيبة بعضها وصفه ابن المقفّع في كتابه كليلة ودمنة و البعض الآخر أضافته الكاتبة فأحسنت توصيفه ف " خونة الغابة" استقرّوا في براري عجيبة ثمار أشجارها جملية المنظر سامّة الباطن . و تستمرّ رحلتك العجيبة في هذا الكتاب و تتلبّس الواقعيّة بالإلغاز في بعض أماكن تحطّ بها الرّحال فتتكهّن في " الفلّاحيّة " أنّك في أرض صادرها الظّالمون وطردوا منها أصحابها وتتمثّل أمامك تلك الأرض الّتي سلبها منّا اليهود ذات غفلة وغرسوا في خاصرة الجسد العربيّ جرحا نازفا فتقف مذهولا متحسّرا تتراوح نفسك بين الحسرة والألم
وذاك هوالمكان في "حبر لا ينضب" مكان فسيح ممتدّ بل هو متعدّد شامل يشمل عالم الانسان ثمّ يتجاوزه على رحابته إلى الخيال ليصنع أماكن عجائبيّة تستلّ من القارئ انتباها بل ترسم على ملامحه مشاعر متضادّة حتّى التّناقض.
وكما المكان كان الزّمان متعدّدا بتعدّد الحكايات فبين الزّمن الآنيّ والزّمن المنقضى والأزمنة المتخيّلة تنسج الكاتبة عوالم حكاياتها فنجدها توغل في الواقعيّة أحيانا فسيلفا في " البقدونس الأحمر" ليست سوى فتاة من هذا الزّمن الصّعب وكذا الشّأن بالنّسبة لترانيم وفتاها الّذي رأته الفتى الحالم و إذا به يقلب لها ظهر المجنّ ويكشف عن وجه بشع وما أكثر تلك الوجوه البشعة في أيّامنا هذه و ما أقسى فعلهم فينا . و تلوذ بعوالم تاريخيّة قديمة لتبني بعض أزمنة أقاصيصها فصاحب الرّقم الخاطئ قفز بنا ساحقا في التّاريخ وأعادنا إلى عهد الفراعنة بل إنّ حكاية " العاشق " قد أعادتنا إلى عهود الآلهة الإغريقيّة ورسمت في أذهاننا صورة معدّلة لنرسيس العاشق و مازالت الكاتبة تمتطي مركبتها الزّمانيّة المجنّحة فتستبق الزّمن لتحدّثنا في " لعنة المرّيخ" عن مستقبل عجيب نحن ذاهبون إليه لامحالة مادام الإنسان ممعنا في نزقه وتهوّره وأنانيّته
نعم كانت أقصوصة لعنة المرّيخ الوتد الّذي شدّت إليه الكاتبة خيمة الحكايات فهناك استشرفت نهاية قصّة الانسان الطّماع
أليس الطمع هو الّذي حوّل الأرض أتونا يحترق فيه الضّعفاء لينضجوا خبز المستغولين المستكرشين؟
أليس الطّمع هوالّذي جعل الدول العظمى تفتح فاها كفاغر شره لتلتهم العالم أطباقا لذيذة تتغدّى بها وتخطّط أن تتعشّى لاحقا بالكواكب الأخرى وتزدردها تباعا
ف " مستشارة الرّئيس" تآمرت و خطّطت مع رئيسها لتحلب الدّول المستعمرات الفقيرة حتّى تنزّدما بل قيحا وتقمع شعوبها حتّى تموت كمدا بل فقرا وحاجة . ومابقي منها تشرذم فئات وطوائف تشرذما عجيبا ففئة منه مقموعة في " وطن منسيّ" محكومة بالنّار والحديد تفتكّ أراضيها وتصادر في " الفلاحيّة " ولا عزاء للمظلومين و فئة ثانية متمرّدة ولكنّها ما أتقنت لعبة التّمرّد فضلّت الطّريق وأمعنت في الضّلال حتّى صارت بيدقا في " الحالم" تقتل وتسفك دماء الأبرياء بدم بارد وعقل مفصول عن الحقيقة والواقع و فئة نصّبت نفسها إلاها في "الوهرانيّ" وفي " قطعة قماش "تحاسب الضّمائر وتتأوّل النّفوس وعلى قدر التّأويل يكون الحساب و يجري العقاب وفئة امتلكت المال في " مدينة الجوع" و " البقدونس الأحمر" فتملّكت العباد وهتكت الأعراض وأزهقت الأرواح في "مدينة الجوع" و فئة أخرى مارست ميزا عنصريّا مقيتا في " مقبرة العبيد " فتعقر صلات الرّحم عقرا سريحا مريحا وفئة... وفئة... وفئة... والكلام لا ينضب إذ لا تنضب الفئات.
أمّا الحلقة الأضعف في هذه الحكايات فهي المرأة تلك الضّحيّة الّتي صار جلاّدوها كثرا فهي ضحيّة الميز العنصريّ في "مستشارة الرّئيس" و ضحيّة الفقر والحاجة في "البقدونس الأحمر" وضحيّة العادات الصّارمة والتّقاليد البالية في "إهداء" وهي ضحيّة الزّوج الأنانيّ في "عروس من طين" والزّوج الخائن في "وليمة مع سبق الإصرار" باختصار هي ضحيّة مجتمع ذكوريّ يكسر معنى حبّ الحياة في نفسها ويحوّلها إلى مجرّد ثور يدور في ساقية الحياة بعينين مغمضتين ونفس مقطوع في انتظار الخلاص ولا يأتي الخلاص فكلّ ما تتصوّره خلاصا هو سراب مجرّد سراب وتعود إلى الطّواف من جديد في ساقية الحياة
إذن طافت الكاتبة الأماكن جلّ الأماكن وحوّمت في مركبة زمانيّة فتردّدت بين الماضي السّحيق والحاضر المعاش واستشرفت المستقبل واتّخذت ذلك سبيلا لتوصيف عالمنا عالم إنسان اليوم فصوّرته بقبحه و زيفه وقتامته ففيه النّاس صاروا أسماك بحر كبيرهم يبتلع صغيرهم والحديث مهما طال فلن يستوفي حكاية طغيان الإنسان وطمعه وتجبّره على أخيه الانسان في كلّ مكان وزمان والكاتبة كانت اجرائيّة الطّبع في حكاياتها الّتي أرادتنا أن نتّخذها نبراسا لنا في متاهات الحياة نستفيد منها ونتعلّم الدّرس من أخطاء الآخرين ونعتبر بما صرّحت به أو لمّحت وأشارت إليه في حكاياتها ألم يقل المثل التّجربة معلّمة قاسية تعطي الامتحان ثمّ تعطي الدّرس فها إنّ كاتبتنا هنا تلبس لبوس المعلّمة وليست بالقاسية بل الحنون تلك الّتي ترأف بقصورنا و تقدّم لنا الدّرس خلاصة الدّرس دون أن تجعلنا نمرّ بامتحان بل أرادتنا أن نتّعظ من امتحانات الاخرين حتى ننجح في امتحاناتنا و بتفوّق فعسانا نتّعظ وحبّذا أن نفيق من غفلتنا أو غفوتنا الّتي طالت حتّى استحالت سباتا مؤبّدا
تلك هي المجموعة القصصيّة "حبر لن ينضب" مجموعة لم ينضب حبرها حتّى بعد أن سكتت شهرزاده عن الكلام وأراحت قلمها كما يريح الفارس فرسه ثمّ يكرّ من جديد بل بقي مداده ثرثارا يحفر صداه في النّفوس عميقا فيهوي على الجذور البالية ليجتتثّها ويغرس بدائلا لها فسائل غضّة يانعة ستزهر ذات يوم لامحالة




ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق