الأربعاء، 26 أغسطس 2020

قصة قصيرة الجنّيّ "الأزرق" بقلم الكاتب الطيب جامعي/ تونس

 قصة قصيرة

الجنّيّ "الأزرق"
كانت هذه المرّة الثّانية الّتي أجد فيها نفسي مجبرا على أن أتابع شجارا و عراكا بعد تلك الحادثة التي حدثت ذات صيف في ريفنا البعيد... و وجدتني أردّد بصوت عال، و بشيء من الهستيريا:" الله يرحمك يا ربح... الله يرحمك يا ربح". و قرّرت بيني و بين نفسي أمرا خطيرا....
ففي أوّل يوم لي في العمارة أحسست بضيق في صدري: كأنّ رصاصا مذابا ينثال عليّ انثيالا. و سرعان ما تحوّل إلى اختناق قاتل. وسّعت قليلا عقدة ربطة العنق التي تلتفّ كأفعوان حول رقبتي. و لمّا لمْ يُجْدِ ذلك نفعا هرعت إلى النّافذة أفتحها على مصراعيها.
و ما كدت أفتح المصراع الأوّل حتى اقتحمت مسمعي أصوات منكَرة و ضوضاءُ خانقة: زوجان في الشّرفة المقابلة يتشاجران، ثمّ يتشابكان بالأيدي. يشهّر كل واحد منهما بالآخر على أعين السكّان و المارّة: يصفها بأبشع ما يمكن أن تُنعَت به أنثى؛ فتكيل له من الشّتائم ما يذيب الحجرَ... بقيت مشدودا إلى المشهد. ثمّ سمعت الزّوجة تصرخ بنزق قائلة:" طَلّقنِي... ".
اشمأزّت روحي من المشهد. سرَت رعدة من أعلى رأسي إلى أخمص قدميّ. هممت بالتّراجع، فأتاني صوتٌ آخرُ. الظّاهر أنّه من تحت النّافذة مباشرة: شجار ٌ و عراك عرفت من خلال أدقّ تفاصيل الزّوجين الحميميّة.
كنت في ذلك العهد صغيرا أتسكّع في المناطق المحاذية "لِحوشنا" لمّا تناهى إلى مسامعنا صياحٌ و ولولةٌ من "حوش" جارنا مرزوق. خرج بعض أفراد عائلتي يتحسّسون مصدر الصّوت. و في الأثناء خرج جيراننا يعتلون بعض الهضاب... هبّ الجميع للنّجدة... التقينا بالمهرولين الذين جاؤوا من كلّ صوب. قال العمّ صالح بأنّها أصوات ربح و أطفالها... حثثنا الخطى أكثر بعد أن تسلّح البعض منّا بما وصلت إليه يداه. هذا بمسحاة، و الآخر بهراوة، و ثالث ببندقيّة صيد قديمة ركبها الصّدأ... أمّا أنا فلمْ أتسلّح بغير نزر من الشّجاعة، و كثير من اندفاع الشّباب و تهوّرهم...
في الأثناء سمعت الشّيخ جمعة يقسم أنّ هذا من أعمال الجنّ. قال له العمّ صالح:
- باسم الله الرّحمان الرّحيم... اللّطف، اتّقِ مولاك يا شيخ...
- ها"الحوش" يا جماعة مسكون، و العياذ بالله...
و انطلق في الأثناء صوت آخر و آخر... لم أكن أستطيع تبيّن واحد منها، فالجَمْعُ صار غفيرا، و الكلّ يهبّ للنّجدة... زاد الشّيخ جمعة بيقين:" جن!... جنّ أزرق!... و الله جنّ أزرق!... ".
كانت حكايا الجنّ تكاد تكون خبزنا اليوميّ، نستمع إلى كبار السنّ، ولاسيما جدّاتنا، و هم يقصّون حكاية هذا أو ذاك مع الجنّ... و ما يمكن أن يفعله... كنّا نُنصِتُ بوجل و استغراب، ولكن باستزادةٍ لِما فيها من غرابة... و كانت الواحدة منهنّ تشرع في الحكي. فإن ترَ تأثرنا، و كثيرا ما يحدث، تزدْ عليه من خيالها الشّيء الذي لا يفرغ. أذكر أنّ الحكاية نفسها نسمعها بطرق مختلفة من جدّة إلى أخرى...
تركت الجماعة في هذا الخضمّ من الجدل و النّقاش، وتحيّنت الفرصة لأتسلّل مسرعا، أريد الوصول إلى "حوش" جارتنا. كانت بي رغبة كبيرة في مسك الجنّ متلبّسا بأفعاله، أنا الّذي لم يرَ جنّيا في حياته رغم الصّورة التي ترسّخت في ذهني. فهو كائن مخيف ذو قرنين كقرني ثور، و له نابان كنابيْ الفيل، و أظافر طويلة.... كان فضولي لا يقاوم في رؤيته رأي العين.
طَويْتُ المسافة على عجل، و تركتُ الجماعة ورائي بين هرولة و جَرْيٍ. كانوا يتّبعون المسلك التّرابي المتعرّج كثير النّتوءات، واستطعت أن أصل قبل الجميع. تردّدت، خفت. ثمّ تشّجعت لمّا عرفت قرب وصولهم. دلفت مباشرة إلى فناء "الحوش". تتبّعت ما بقي من أنين. فقد كفّ الصّياح و العويل، و دلفت إلى أوّل غرفة.
في الأثناء كان الجمع يتقاطر. الرّجال يصيحون... يلوّحون بما جلبت أيديهم في الفضاء مهدّدين... ثمّ يقفون متردّدين على مسافة قريبة. كنت أرى في وجوههم الفزع يطلّ من أعينهم و من أنوفهم و أفواههم و مسامات جلودهم... يتلو البعض ما تيسّر من الآيات يحصّن بها نفسه... لا أدري ما دار بخلدي وقتئذ. نسيت ما جئت من أجله، و بقيت مشدودا إلى مناظرهم.
ثمّ انتبهت. دخلت. وجدت جارتنا"ربيحة" كما يحلو لنا مناداتها منكمشة في زاوية و هي تضمّ إليها أبناءها اليافعين كما تضمّ الدّجاجة فراخها خوفا، و تربّتُ عليهم. كانت بما تملك من بقايا نَفَس و قوّة تُطَمئنُهما. تريد أن تبدو على ما يرام. رأيتها تجاهد في رسم ابتسامة و هي تشّجعهم. ساعتها ما شكَكْتُ لحظة في أنّ الجنّ قد انهزم و طُرِد خاج "الحوش" شرّ طردة. ولكن آثاره بادية للعيان: زُرقة حول عَيْنَيْ ربح و في خديها، و أسمال تكاد تكون ممزّقة، و جِفَان و قِصِاع مبعثرة هنا و هنا... و منها ما طُمِس شكله فلا تعرف ما هو....
و هناك، في زاوية، زوج مكدّس، واجم، كمن يتغشّاه الموت، منهكٌ... صدره يعلو و ينخفض... لقد بذل جهد الجبابرة لطرد الجنّ... وقفت واجما. أوّل مرّة أحسست برهبة، و برعدة هزّت كامل كياني. لم أستطع أن أقول شيئا، لقد انعقد لساني...
ثمّ يتدارك الجمع، و يفدون معا دفعة واحدة. و قفوا على آثار المعركة. صاح الشّيخ من جديد: "قلتلكم راهو جنّ أزرق، شفتو عمايله... هاتوا البخور ..."، فيصيح به العمّ صالح:" يا راجل! .. يا راجل!... راهو عيب عليك... استغفر مولاك ... راك شيخ قاري كلام ربّي".
و يلتف إلى ربح يستوضحها:" آش صار يا ربيحة؟ وينهْ مرزوق؟!".
تسترسل ربح في سرد ما وقع بتفاصيل نكاد نعرفها لكثرة ما حكاها لنا كبارنا عن أعمال الجنّ لمّا يسكن "الحوش"، و لاسيما لمّا يريد إحدى البنات لنفسه... حتّى أنّني وجدتني أساعدها في رسم النّهاية، فينهرني الشيخ بغلظة طالبا منّي الكفّ و الاستغفار حتّى لا يصيبني بأذىً...
لمّا تفرّق القوم قافلين بقيت أتسكّع بالجوار... و لم يمض إلا بعض وقت حتّى .عاد الصّياح من جديد... و وجدتني أعدو إلى الحوش في كرّة ثانية...
كانت إطلالتي من فوق. بهتّ... هالني ما أرى: جارنا مرزوق كالمسعور يعتدي على زوجته بكل ما تصل إليه يداه. و ربح منكمشة، و أطفالها بأجسادهم الغضّة يحاولون صدّ بعض الضّربات... فتصدر عن الجميع تأوّهات و صرخات يجاهدون لكتمانها...
هدأت العاصفة قليلا. رنا مرزوق بنظره إلى الأعلى. رمقني. انتفض متراجعا إلى غرفة أخرى مقابلة و تعابير وجهه تريد أن تقول عدّة أشياء... لم أستطع البقاء أكثر... نزلت إلى الفناء و كان بصحبتي العم صالح هذه المرّة. لا أدري من أين أتى أو متى. ربح، متجلّدة تكفكف دموع أبنائها مشجّعة، بادرتنا برجاء كادت تنفطر له القلوب:" ربّي يستركم، استرو ما ستر ربي... ".
حين حضر بعض الأفراد من جديد، و قبل أن يتكلّم أحدهم قالت الزّوجة بأنّ الجنّ عاود الاعتداء على العائلة، و لكن، كما المرّة الأولى، وقع التصدي له...
و دون وعي منّي وجدتني أنساق معها، و ألفيتني أتمتم:" نعم.. نعم.. رأيت كل ذلك بأمّ عيني.. إنّه .. إنّه الجنّ". فيما سكت العمّ صالح و هو يحكّ عثنونه... و يقول:" نعم.. نعم.. عفريت.. فريت من ال.. "، و سكت... لم يضف كلمة أخرى. و إذا بجارنا عثمان يضيف بشيء من اليقين:" إيي... عفريت.. عفريت... كيما قال السّيخ. اللّطف يا صاحب اللّطف...".
دار هذا الشريط كلّه في ذهني في لحظات و أنا أرى هذا المشهد أمامي... الله يرحمك يا ربيحة...
أغلقت المصراع. تراجعت، لم أفتح حقائبي... قرّرت بيني و بيني نفسي أمرا خطيرا...
---ا----
"الحوش" نمط سكن تقليدي عبارة عن بيوت محفورة في الأرض، تكون في السهول أو في الهضاب، يتوسطها فناء دائري عادة.
****ا*****
الطيب جامعي/ تونس
L’image contient peut-être : ciel, montagne, plein air et nature

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق