السبت، 29 أغسطس 2020

حلمٌ- مالح للكاتبة ألفة جمعة

 

حلمٌ- مالح

           ألفة جمعة

 

الأرض ليست سوى سرير للنوم بالنسبة لنا، أنا من جزيرة نائية منسية في عرض البحر المتوسط، فكأنما الأرض لم تتّسع لنا يوما، ليس البحر مرآةً، بل بالعكس، انه يدفعنا للبحث عمّا لسنا عليه. يقول سارتر: "الآخر هو الجحيم"، لكن ادوارد سعيد يقول: "الآخر هو هويتي" ، ونحن كعادتنا، نتأرجح بين الثقافتين، البحر هو الطريق إلى الآخر، إلى الهوية من خلال الآخر، يخاطبنا، أينما أبحرنا فيه، تأتي إلينا الأمواج مهرولة و هي على العكس تجذبنا إلى الأعماق بصوت خريرها الممزوج بغناء عرائس البحر.

للبحر أيضا شعابٌ و طرقٌ متشابكة، و ليس سطح الماء سوى غطاء لها، الظلام هو السّتار الوحيد الذي يُتنقّب به على سطحه. أما في الأرض فيلحون علينا ليسجنوننا: في المكان.. هل المكان هو المحدّد للذات؟

نحن حلمٌ مالح و قمرٌ جارح و صمتٌ يكسر الريح و يجعل مياه البحر تنسج الرحيل. من ياخذني معه إلى اليابسة إذا كان له متّسع من الخيال ؟ أنا أكثر شخص يُسأل من أنتِ و من أين أنتِ؟ و كأنما سقطت ارضي من الخريطة، هل غرقت مع الفينيقيين؟ البساتين، الأودية، الغابات، سنان الجبال، كلها طبيعة لا استطيع تقصّيها أو تمثيل حركتها. مثلها مثل طبيعة البشر، بي سذاجة فطرية تارقني، يسكُنني سكونٌ رهيب و تسكنهم حركة منفجرة، ليسو سوى انفجارات من النفاق والتملق في حركة دائمة من الابتداءات سرعان ما تراها جسور تعبيرات متضادة..

- هل تعلمون؟ أنا النورس المسافر، ليس المهاجر، هل تعلمون الفرق بين السفر و الهجرة؟ هل تعلمون لماذا يبدو الأول متعة و الثاني وطأة بلا نهاية، هو الأثر الذي يجب أن يكون مهمتنا المقدسة في الحياة، حتى راكب موجات الريح يترك أثرا في كل مكان، فالنوارس تترك أثارا على الشطاَن التي تنتظرها، هذا حتمي، من يتشبّث بقدسية الفن يحوّل الشمس إلى برد و الغيوم إلى صوف لنسجها ملابسا للدراويش ويطبخ تحت نار القمر عشقه السري، لا يعرف قدسية الفن إلاّ المسافرون لا المهاجرون، لا يعرف النورس سوى الأشجار التي تعشق الزمن و يفرّق بين الموجة العذراء والموجة العجوز، لا يحتاج إلى بوصلة، وكذلك الفنان، لهما بوصلة واحدة هي وطنه و عائلته، سيعود إليهما و سيجد الباب مفتوحا كما عهدناه سابقا في أريافنا فنحن ننتمي إلى سلالة من الناس أضاعت مفاتيحها. لا شيء يُسمّى، يقول سبينوزا: "التعريف هو المنفى"، البحث عن النفس لا يتوقف أبدا، هدم الدنيا و إعادة بنائها، الخلق والإبداع، البحث عن المعنى، البحث عن الله في الأرض. أن تمارس الفن هو أن تترك أثرا أبديا للغير، أن تخلّد لحظة، أن تغيّر و لو قيد أنملة، أن تخلق عالما أكثر إنسانية "إن الفنان هو يد الله في الأرض" هكذا قال دافنشي.

غضب البحر و ابتلع المسافرين الجدد بعد اكتشافه أنهم مهاجرون، أصبح الموت موعدا لنا في الحياة، هجرنا التاتار و تركوا لنا مسؤولية إتمام المهمة، الأفق خيط يشنق الأعناق المشرئبة إليه، لا يمكنني النظر إلى البحر دون التفكير بالمهاجرين الباحثين عن النجاة، فهلا رفقت بنا أيها البحر وعذرت كفرنا و أعدت إلى صدورنا روح النوارس؟ هل يفضل الموت الجثث بطعم الملح؟ متى يُبعث فينا نوح جديد فينتشل جحافل الغارقين؟

هذه هي تمتمة القدر و تواطؤ الزمن، قالوا لي : اكتبي..

- ما أنا بكاتبة..

- اكتبي..

- ما أنا بكاتبة..

اكتبي سفينة تعبر ذاكرة شعوب نسيت السلام..

سفينة تذكر من يربطون أعمارهم بحبل من الموت ليتسلقوا به آمالهم حسبهم شيء من الدعاء كقوت.

سفينة تخرج من قرطاج لتعود أدراجها إلى صور، توقظين فيها الفينيقيين عساهم يعودون إلى موانئهم من جديد.

سفينة تعكس الوقت..

"لا شيء فني حقّا أكثر من حبنا للآخرين"..





ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق