محك الطهارة في ضحايا البوليس و محترفي الدعاره"
(مقطع من رواية "دمعة القشتالي" بانتظار النشر.)
كنّ واقفات بانتظار الحافلة أمام الكليّة . اخترن مكانا قصيّا بعيدا عن أعين البوليس المتمركز بعرباته السوداء في كل زاوية من سور الجامعة. كنّ يدرأن الاقتراب من الأعوان المرابطين فاستفزاز المحجّبات و استهدافهنّ ولو ببعض الكلمات النابية كان طريقة يتسلّى بها الأعوان الضجرون من وقوفهم المطوّل تحت أشعة الشمس. كانت ردود أفعال المحجبات على ما يسمعن من كلمات تتراوح بين الخجل والخوف ما يجعلهن يرتبكن ويتعثّرن في مشيهنّ ويشارفن على السقوط عكس غيرهنّ من السافرات اللاتي يتقبّلن مشاكسة الأعوان بالابتسامة المتسامحة أو الردود الشجاعة التي غالبا من تجعل المشاكس موضوع سخرية من طرف زملائه.
نزل ضابط من السيّارة وخاطبهن آمرا:
- انتنّ هناك. تعالين.
تدافع المحجبات الثلاثة لتفادي المركز الأوّل في الصف والتصقت كلّ واحدة منهنّ بالأخرى حتى سرن كتلة واحدة وسرت قشعريرة الخوف إلى أجسادهنّ مثل الشحنة الكهربائية فتعثرت سيقانهن في جلابيبهنّ الطويلة كلما اقتربن من السيّارة.
أسرعن الخطى. ما بكنّ؟ هل تنوين الهروب؟ لن تفلت منّا أي غزالة منكنّ. خوفكن ينبئ بشيء مريب تخفينه.
كانت كلمات الضابط كفيلة بأن تجعل الفتيات يستبطنّ الخوف ويقتنعن بحقيقته وأيقنّ من جدّيّة اتّهامه لهنّ ولم يعد لهنّ من مناص أن يختلقن تهمتهنّ المحتملة ويتحضّرن لدحض ما سيقوله الضابط. هنّ منتميات ووجودهنّ في يوم إضراب الطلبة في ساحة الكليّة لن يكون إلاّ تعاطفا مع أبناء الاتجاه الموقوفين برجيم معتوق ومشاركة مؤكّدة في أعمال الشغب واستهداف البوليس بعبوات المولوتوف تقليدية الصنع.
- والله لم نفعل شيئا. كنّا في المدرج لمتابعة محاضرة أستاذنا.
- وما موضوع هذه المحاضرة؟ هل كان الأستاذ يملي عليكن ما يجب فعله من شغب؟
- أبدا. والله. هي محاضرة حول الخيال الشّعري عند العرب.
- آه، جميل. الخيال الشعري. وهل لكنّ من الذوق المرهف حتى تستسغن الشعر؟ الشعر جمال وأنتن لا تحتفين بالجمال بل تطمسنه بدليل ما تلبسن على أجسادكن وما تضعن على رؤوسكنّ.
- استغفر الله. تمتمت إحداهنّ.
- أنت؟ ماذا تتمتمين؟
- لا. لا شيء. استغفر فقط.
- تستغفرين؟ وهل أنت بحضرة كفّار قريش أم طواغيت الجاهليّة؟
- حاشاكم. لم أقصد هذا. هي كلمات تجري على لساني متى ضاقت بي.
- ضاقت بك؟ من ضيّقها؟ لو كشفت عن شعرك وفتحت أزرار قميصك لتسنّى لك الشعور بالرفاه. هل تردنها غابة تفعلن فيها ما تشأن من مخالفة لنمط عيش التونسيين؟ لباسكنّ مشبوه وسلوككنّ مريب وتحرككنّ يمثل خطرا على الأمن العامّ.
- بريئات و الله يا سيدي. نحن تربين على هذا السلوك منذ نعومة أظافرنا.
- وأنت؟ مخاطبا الثانية. متى ارتديت هذه الشوليقة؟
- منذ وقت قريب.فقط لمّا دخلت الجامعة. جئت من أعماق الرّيف وارتديت الحجاب حتى يطمئنّ والداي على سلوكي المتعفّف.
- هيّا. اخرجن بطاقاتكنّ.
بحثت كل واحدة منهنّ في حقيبتها بأياد مرتعشة وسلّمن بطاقات هويتهنّ.
- سلوى من الجنوب، شهرزاد من الوسط وحياة من العاصمة.مجموعة رائعة اختزلت جغرافيا كل البلد. وما جمعكنّ هكذا؟
- نحن ندرس بنفس الاختصاص: شعبة العربيّة.
- أليس لكنّ من زميلات من جهاتكنّ؟
لا إجابة.
- أنا أعرف ما يجمعكنّ ونحتاج منكنّ المزيد من المعلومات. اصعدن بالسيّارة، سيكون لنا معكنّ حديث شيّق ومعاملة رائعة في مركز الاستعلامات.
لفحت روائح التبغ والكحول و الأحذية النتنة أنوفهنّ فاعتصرت معدة إحداهنّ حتى إنها لم تمسك نفسها عن التقيؤ. صاح بها احد الأعوان مؤنبا وأمر ثلاثتهنّ بتنظيف أرضية العربة بالجلوس على قيء زميلتهن والتزحلق عليه بأردافهن يمنة ويسرة حتى تشفطه جلابيبهن.
- آه يا بنات. لقد صرنا مثل الحيوانات تنام على برازها.
- ثقي بالله الذي تؤمنين بقدره وتصلين له فرضا ونافلة فهو حفيظنا.
- سيفعلوا بنا ما فعلوا بسابقينا. سننال نصيبنا من التعذيب لاستنطاقنا بما نعلم ولا نعلم.
- اصمدن، أخواتي. سنصبح رموزا للنضال وننال ثواب الدنيا والآخرة.
- هل سيطلقون سراحنا قبل حلول الليل؟ أنا أخشى التنقل ليلا بمفردي.
- لا بأس، سأستضيفكنّ في منزل عائلتي. لنرى اوّلا ما سيقولون لنا.
توقفت عربة البوليس أمام بناية قديمة ذات جدران سميكة وفتح باب حديدي بدفتين ثقيلتين واقتاد الأعوان الفتيات الثلاثة إلى بهو فسيح يشبه ساحة المدرسة، أحاطت به غرف متفاوتة الحجم ذات أبواب مهترئة عليها آثار الركل بالأرجل والتهشيم بأدوات ثقيلة. وفتحت في بعضها نوافذ صغيرة يشبكها قضبان من الحديد الصدئ, وتوسط البهو بقايا نافورة قديمة امتلأ حوضها بماء آسن يطفو فوقه علب الجعة والقوارير الفارغة وبقايا السجائر وخرق من القماش الوسخ.
كان المكان خال من أي حركة، وكأنما هو منزل مهجور تسكنه الأشباح.أقفل الباب وانطلقت عربة البوليس مصدرة صوتا صاخبا. ثمّ خيّم الصمت على المكان.
بعد برهة، أطلّ من أحد نوافذ الطابق العلوي عون أمن مقهقها:
- أهلا بالعرائس. يا لحظكنّ الجميل. ستكنّ في ضيافتنا في ليلة أنس لا تتخيّلون.
تطأطأت الرؤوس في خجل وولّت الفتيات وجوههنّ للحائط.
- تحلّين بالجرأة. ستأتين لمكتبي وتتواصلن معي بكلّ أريحيّة. خذن راحتكنّ الآن وسأتحدّث معكنّ متى صرتنّ في أتمّ الاستعداد.
اقفل العون النافذة وترك الفتيات يتأمّلن الفراغ المحيط بهنّ.لأكثر من خمس ساعات ظللن واقفات واجمات صامتات حتى بدا لكل واحدة منهنّ أنها تقف بمفردها وسط مقبرة قديمة. كان البهو خال من أيّ مكان للجلوس و كانت الأرضية وسخة بفضلات الخيول وعلفها. انتبهت إحداهنّ إلى أن المكان ليس إلاّ مركزا بيطريا لمداواة الخيول المصابة أو الإناث التي يحين وقت ولادتها وربما هو إسطبل لتلقيح وتخصيب الإناث لتوفير الدواب لفرقة الخيّالة التابعة للمنظومة الأمنيّة ولا عجب أن يكون لكلاب البوليس موعد متكرر مع طبيبها في هذه المصحّة المختصّة.
طال الوقوف وتورّمت الأرجل داخل أحذيتها. أخذت الفتيات في التنقّل وسط البهو واستراق النظر لما تحويه الغرف المغلقة المصطفّة على كل جانب. دققن النظر من خلال شقوق الأبواب فتأكّدن من خلو الغرف من أي معدّات .
في الطابق العلوي كانت هناك شبه شقّة بنوافذ محكمة الغلق يتسلّل منها ضوء خافت يصل منه شعاع ضعيف لينير باحة البناية التي أطبق عليها الليل بظلامه وزاد سكونه وحشة.
- ما مصيرنا، يا بنات؟ هل سنقضّي ليلتنا وقوفا؟
- أنا أريد أن أقضي حاجتي الطبيعية. أمسكت نفسي منذ الصباح ولم أعد أقدر على مزيد الصبر.
كانت هذه الكلمة كفيلة بان تذكّر ثلاثتهن بما هي تعاني منذ أن أشار عليهنّ ضابط البوليس بالتقدّم نحو السيّارة.
- أظنّ أنّ المكان خال من أيّة حياة والأوساخ متراكمة في كلّ مكان. علينا أن نقضي حاجتنا في ركن من المكان.
- ألسنا مراقبات من أحدهم أو بكاميرات؟
- لا أظنّ, ليس هناك من إشارة في الأعلى.
جلسن ثلاثتهنّ القرفصاء بعد أن شمّرن جلابيبهنّ ونزعن تبابينهنّ ... وفجأة فتحت النافذة العلوية وأطلّ الضابط ساخطا: - " ماذا تفعلن؟ هل تنقص مكان مبيتنا وساخة وروائح كريهة حتّى تزدنه أنتنّ؟ اقسم أن ليس لكنّ من عشاء هذه الليلة غير ما أخرجتنّ من بطونكنّ."
نهضت الفتيات بسرعة وتسربلن في جلابيبهن وانطلقن في بكاء وعويل جماعي.
انتصف الليل وتمكّن الإرهاق من الفتيات فرمن الجلوس على الأرضية الوسخة ثمّ وضعن رؤوسهنّ على زنودهن واستسلمن للنوم. وما هي إلاّ ساعة أو بضع ساعة حتى انتبه الضابط لهدوئهن فصاح من شرفته:
- قيام, ممنوع النوم. ستخضعن للاستجواب بعد ساعة لمّا يستفيق السيّد البحّاث.هيّا, ابدأن بتسجيل حضوركنّ كلّ نصف ساعة بنطق أسمائكنّ عند باب السيّد الحاجب. هو ينام في المكتب الأول في مدخل البناية. ستجدن الباب موصدا. كل واحدة منكنّ تدخل رأسها من النافذة الصغيرة وتنطق اسمها بوضوح وتكرره عدة مرات ولا تنكفئ حتى تسمع جوابا.
تقدّمت حياة من الكوّة وأدخلت رأسها مدققة في الظلمة فلم تشعر بوجود أي كان, نطقت اسمها عدة مرّات حتى ظنّت أنها سمعت إشارة كمن يتمتم في حلمه ثمّ تركت المكان لصديقتها.
- هل ردّ عليك أحدهم؟
- نعم أظنني سمعته يقول في نومه "اممم..."
- أنا كذلك سمعته لكن لست متأكّدة أنه صوت آدمي.
- أنا أيضا أشكّ في الأمر.
مر نصف الساعة الأولى والفتيات في تساؤل حول ما سمعن من إجابة وكان عليهنّ الآن أن يعدن الكرّة. تقدّمت حياة عازمة على تمييز الصوت هذه المرّة حتى يتبدّد شكّها.
- حياة...
- اممممم
- حيـــــــاة.
- امممم
- حييييييياااااااة.
- اممم... هب...هب...هب.
أطلّ الضابط من نافذته ساخرا:" سجّلن حضوركنّ هكذا كلّ نصف ساعة لكن دون إقلاق راحة السيّد المراقب، فهو في فترة نقاهة إستشفائية بعد ما أصاب أذنيه انفجار عبوّة "مولوتوف" صنعتها أيادي إخوانكم "
استدركت الفتيات وضعهن وأيقنّ من الورطة التي وقعن فيها. ليس بعد هذه الإهانات من إهانة أفظع وأقسى . بتن في حظيرة حيوانات وسجّلن حضورهن بمخاطبة كلب مصاب، حرمن من الأكل والشرب وابسط الحقوق الإنسانية.
فقدت حياة صبرها و صاحت في شبه انهيار عصبي :" سيدي؟ لم تفعلون بنا هكذا؟" وفكّت عقدة لسانهن فانطلقن ثلاثتهن في صياح و توسّل للضابط الذي لم يعر اهتماما لتضرّعهنّ وبعد أن أتممن نوبتهنّ من البكاء والصراخ، أطلّ الضابط ثانية قائلا: - " لا تغفلن على تسجيل حضوركنّ عند السيّد الحارس كلّ نصف ساعة وإلاّ فسينالكنّ منّي عقابا أشدّ وأقسى."
بتن ليلتهنّ الأولى في تناوب على نافذة غرفة الكلب الجريح كلّ نصف ساعة.
صبيحة اليوم الثاني ألقيت على رؤوسهنّ علبة حليب ورغيف خبز ونصف قارورة ماء. لا زالت أجسادهنّ تتحمّل المزيد من الجوع والعطش وربّما تأكّدن من قدرتهنّ على الصبر بغياب الشهيّة وكثرة الأوساخ المحيطة بهنّ.
- لنصبر يا بنات. سنصبح رموزا للنضال وننال المجد في الدنيا والثواب في الآخرة. لعلّ الله يحبّنا واصطفانا لهذه المحنة حتى يكرمنا؟
- أنا اصبر على الجوع والعطش واعتبر نفسي صائمة, لكنني لا احتمل كل هذه الوساخة.
- لنعلن إضراب جوع حتى يجدوا لنا حلا وينقلوننا من هذا المكان.
- فعلا. هذه فكرة جميلة.
بعد ساعة سمع الفتيات وقع أقدام تنزل على سلم الطابق العلوي فاستعددن لأمر جديد .أطلّ الضابط من شباك أحد الغرف الخالية، عندها صاحت به حياة: "نحن في إضراب جوع حتى تجدوا لنا حلاّ"
لم تلق إجابة من الضابط، إنّما أشار عليها فقط بتسلّم إناء صدئ وأمرها بان تفتت الخبز وتدلق عليه علبة الحليب ثمّ تقدّمه للكلب المصاب، مضيفا: "اعتذر منكنّ. هذا غداء السيد المراقب. إمّا انتنّ فلم يأتني الأمر بإعاشتكن . هل ترضين أن أطعمكنّ من مالي الخاصّ؟ تعرفن أن مرتبي ضعيف ولا أحد يسمح لي بشيء لصالحكم."
لساعتين، كانت الفتيات في شعور جميل بالتضحية من اجل توجههنّ الإيديولوجي وكنّ على استعداد للجوع والعطش. أما الآن و قد صار الأمر اضطرارا فإنّ مغص الأمعاء وجفاف الرّيق بات يمثّل عذابا مجانيا. وزادت حرارة المكان المغلق من تعرّق أبدانهنّ تحت ملابسها الثقيلة.
- آه، يا بنات. أنا كرهت جسدي . ثيابي تلتصق على جلدي وأتذوّق طعم الوساخة في حلقي.
- هو ذاك ما يريدونه لنا. علينا بالصبر.
- وماذا يريدون؟ هل سيتواصل حبسنا دون أي استجواب؟ هل نسوا وجودنا؟
- أنا أريد أن أنال حصتي من التعذيب سريعا وأموت أو أغادر إلى مكان آخر، فربما ظروف السجن تكون أفضل.
- لنصبر أخواتي. لا يزال لنا ما به نقاوم.
- نقاوم؟ من نقاوم؟ وهل لنا من عدو نقاومه في هذا المكان غير أجسادنا التي تطلب الغذاء وتجبرنا على التغوّط والنّوم؟
- ركزي فقط على قناعاتك وقوّتك الروحية ، ستشعرين أنّك بطلة بمثابة النبيّ في مجابهة قومه من الكفّار.
- ليتني ابلغ تلك المرحلة من التجرّد الروحي. انا انهار يا صديقتي. جسدي كان ولا يزال خائنا لاستعداداتي النفسية. ليتني كنت روحا بلا جسد. عندها لن يقدر علي فيلق من البوليس.
- هل من إمكانية للتوضؤ للصلاة؟ بارك الله فيك، سيدي الضابط.
هكذا صاحت حياة ليصل صوتها حد نافذة مكتب الضابط بالغرفة العلوية.
- ثبّت الله أجركنّ. هذا أمر مقدور عليه. طبعا انتن ترغبن في الوضوء وربما الاستحمام أيضا؟
- لو تكرّمتم سيدي وأجركم على الله.
- عذرا يا عروسة. المشكل انه يمنع غلق باب دورة المياه. انتنّ في ضمانتي وأنا احتاط كثيرا من إمكانية انتحار إحداكنّ لمّا تغلق عليها الباب. من تقبل منكنّ أن تستحمّ أمام ناظري فلها ذلك و لكنّ القرار.
كانت إجابة الضابط قادحا لنوع جديد من العذاب قوامه التحرش الجنسي، فصارت الموقوفات تفكرن في أنوثتهنّ وما يمكن أن تجني عليهنّ من إهانة وابتذال. تضاعف كره كلّ واحدة منهنّ لجسدها وتسللت إلى نفوسهنّ نقمة صريحة على ذاك الهيكل الملتصق بالعالم الأرضي لا يرتفع عنه سوى لحين ثمّ يعاود السقوط.
مع حلول الليلة الثانية، وفدت على المجموعة موقوفة جديدة من بنات الشارع، زجّ بها عونان وأغلقا الباب. كانت الموقوفة امرأة شقراء بعينين مركبتين وزينة مفرطة مع عطور فوّاحة تعبق من ثيابها وتتعالى حتى تبلغ نافذة المكتب العلوي.
- ايييه؟ ما أذكى هذه العطور؟ صراحة. مللنا الروائح الكريهة التي نعاني منها منذ الليلة الفارطة.
- جد لنا حلاّ سريعا حتى لا تضيع هذه العطور في الوسخ.
- لك الحق. أنت لا تليق بك وساخة مربض الحيوانات. اصعدي لمكتبي وانعمي بالعزّ
فتح الضابط باب المدرج و صعدت السافرة تاركة المحجبات في شعور بالغبن لم يكنّ يعرفنه.
هل كانت هذه السافرة أنظف منهنّ وأكثر جمالا حتّى تحظى بعطف هذا الضابط منعدم الضمير؟
راجعت كلّ واحدة منهنّ علاقتها بجسدها واستنتجت أن جسدها ذاك السجن الذي يكبّل روحها ويعرّضها للإهانة يمكن أن يستغلّ أيضا لنيل بعض الامتيازات من أقسى النّاس قلبا.
تفطنت الموقوفات إلى أنّ الطابق العلوي كان مأهولا بعدّة أعوان من الدرك. فإضافة إلى مكتب الدوام الذي يراقب الموقوفات، كانت هناك غرف للإقامة العرضية لأعوان التعزيز وكان حضور المرأة السافرة فرصة للسمر والترفيه على غير العادة.
انقضت الليلة على موقوفات الطابق السفلي على قرع الكؤوس وصخب الغناء المبتذل و الرقص الجماعي الماجن.
في صباح اليوم الموالي، تلقت الموقوفات علبة الحليب ورغيف الخبز ونصف قارورة الماء. لم تتجرّأ أي منهنّ على المساس بذاك الطعام ظنّا منهنّ انّه غداء الكلب المريض. بقين في انتظار أن ينزل الضابط ويناولهن الإناء الصدئ حتى يحضرن غداء حارسهن، إلاّ انّه مع منتصف النهار فتح الباب الرئيسي على مصراعيه ليدخل رجل بلباس الممرضين غرفة الكلب ويخرج منها سريعا بكيس كبير لجمع القمامة وضع فيه جثّة الكلب الذي قضى نحبه. وقبل أن يغادر، نزل الضابط للباحة وأمر الفتيات المحجبات بتسجية جثة الكلب وتأبينه بصلاة الجنازة والدعاء له بالرحمة والغفران.
أمّا الموقوفة السّافرة فقد أطلق سراحها أو وقع ترحيلها إلى مكان آخر بعد أن نجحت في تأثيث ليلة حمراء لنزلاء المركز.
أسقط بيد الموقوفات ولم يعد لهنّ من أمل في فرج قريب وتأكدت ورطتهنّ ولم يعدن ينتظرن إلاّ الأسوأ. جفّت دموعهنّ أو إنّهنّ اقتنعن بعدم جدواها وإن للتفريج على خواطرهنّ المكسورة. تسلّل إلى إحساسهنّ شيء من الشكّ في التزامهنّ الديني والأخلاقي. صار يختلج بضمير كلّ واحدة تأملات متضاربة في حقيقة الجسد وعلاقته بما يرتبه العقل وغريزة الدفاع عن النفس وتوقّي الموت. غريزة ضمان البقاء وترتيب الوجود والتوق إلى الشعور بالأمان يمكن أن تجعل الإنسان يقبل بالرضوخ لوضع معيشي تتوفر فيه أدنى أسباب البقاء ويخفّف المشاعر السلبية المتعلّقة بمعاني الحرّية والكرامة: فأمام شبح القهر والانتهاك والموت يصبح الرضوخ والاستكانة مناورة أخيرة لضمان أدنى مقومات الحياة.
- أنا لم أعد أطيق جسدي؟ كل هذه الوساخة تجعلني اشعر إنني اقرب إلى الحيوان منه للأنسنة.
- أنا أتضوّر جوعا وعطشا. صرت أغبط ذاك الكلب المصاب في ميتته.
- اصبرا. يا لسوء حظّي بصحبتكما. لقد كنت في قمّة السعادة قبل أن أعرفكن, كان لي أصدقاء متفائلون متحررون يأتون كلّ المغامرات ويجرّبون كلّ الممنوعات. هم سعداء بحياتهم وناجحون في دراستهم أمّا أنا فقد وقعت في دائرة مغلقة لمّا اخترت أن أتدثّر بردائي الثقيل واقمع شهواتي بالتزامات مشطّة وجعلت منتهى أماني أن أموت تقيّة طاهرة. هل من معنى لحياتي إذا كانت بوصلتي معدّلة فقط على ما بعد الموت؟
- استغفر الله العظيم. انتبهي عزيزتي لما تقولين. هذه وسوسة الشيطان.
- الشيطان؟ ألم تريا أنّ طريق الشيطان جلب السعادة والفرج لتلك الرّاقصة التي أطلّت علينا البارحة سريعا ثمّ مضت دون مماطلة إلى متعة الحياة؟
- أعوذ بالله. أنا لن أقبل على نفسي مثل ما فعلت ... لا زلت أخشى غضب الله. ولعلّ هذه الأيّام ستكون آخر أيّام عمري قبل أن ألقى وجهه الكريم.
- المشكل أنهم لن يتركوننا نموت متى صرنا في أتمّ الاستعداد لذلك. ولعلّ الدور سيكون علينا الليلة بغياب مثل تلك الراقصة .
- هل نقطع عليهم نشوتهم بتعذيبنا وإهانتنا بأن نقوم بانتحار جماعي؟
- سنخسر عندها كل ما عشنا لأجله وتعبدنا لضمان الآخرة.
- ما العمل إذن؟ هل علينا أن ننتظر احتضارا طويلا ونحن نرى أجسادنا تذوي مثل الشموع في مكان مغلق؟ أنا لا أخشى الموت بقدر ما أخشى العذاب الذي يسبقه.
- كفى يا بنات. سيبعث لنا الله من يرحمنا. لنثق بعنايته ونتفاءل خيرا.
كانت الليلة الثالثة أكثر صخبا. ازداد عدد نزلاء الإقامة العرضية في الطابق العلوي وفتحت عدة نوافذ لتنير بهو المصحّة البيطريّة وتجعل الموقوفات على مرأى من كلّ من أطلّ من الأعلى.
- آه، يا زميل. هل تحوّلت المصحّة البيطريّة إلى مصحّة للبشر؟
- وأين ترى البشر، بربّك ؟ ألم تصلك روائح بولهنّ وبرازهنّ؟ هنّ متعفّنات بسبب ما يضعن على جلودهنّ من قماش ثقيل رغم حرارة الطّقس.
- أنا أعشق رائحة الأنثى. لو نزعن جلابيبهنّ وقمن بالاستحمام لصرن أجمل الجميلات. لابد أن لحمهن سيكون لذيذا لأنه نما في الظلّ بعيدا عن أشعة الشمس الحارقة.
- لو استطعت إقناع إحداهنّ فلك ما تشتهي وسأتولّى التغطية على تجاوزك للقانون.
- أيّ إقناع؟ وهل تضنني سأخطب واحدة منهنّ؟ لا غاية لي سوى إشباع رغبتي المكبوتة منذ أسابيع بسبب مداومتنا على متابعة تحركاتهم وفضّ احتجاجاتهم اليوميّة.
انكفأت الفتيات الثلاث عن النقاش وانطلقت كل واحدة منهن في حوار باطني واندلع صراع محتدم بين بقايا القيم الإنسانية المتهاوية والرغبة في نيل امتياز يوفر غذاء وطهارة من النجاسة وربّما إطلاق سراح لو نجحت في استمالة قلوب هؤلاء القساة لمّا يكونوا في قمّة النشوة الشبقيّة . سرت الفكرة في أذهان الفتيات مثل الطاقة الخفيّة وتراوح تماهيهنّ معها بين التردّد والقبول أو تمنّي الموت السريع لمن لم يسبق لها أن جرّبت ملامسة الجسد الذكوري ولو بالمصافحة. وهل تعتقدين أنّه لو تنازلت إحدانا ودفعت الثمن فهل سيسقط الدور على الأخريات؟ ربما سنفتح على أنفسنا بابا لن يغلق.
- يا الله. هل كتب علينا أن نصبح زانيات؟ من سيغفر لنا ذاك المنكر غيرك؟ بأيّ شعور ستتواصل حياتنا وكيف سنواجه عائلاتنا ومجتمعنا؟
- الأمر لله وحده وليس لنا من خيار.
- لنتّفق يا بنات. هي تضحية باهظة الثمن. وعلينا أن نقدّمها بإرادتنا قبل أن يقع إرغامنا عليها.إن هم أقدموا على اغتصابنا فسنفقد قيمتنا الإنسانية وتكسر إرادتنا إلى الأبد. بما أنّ القدر شاء لنا، فلنقبل به فاعلات وليس مفعولا بنا. أنا أحسّ في نفسي القدرة على استمالة قلبه وإقناعه بإطلاق سراحنا.
- أنا أيضا لم أعد احتمل البقاء في هذا المكان. الجوع يمزّق أحشائي وأحسّ بحرقة على جلدي بسبب الأوساخ والعرق.
- وما مقامنا لو غادرنا هذا المكان مدنّسات؟ كم أتمنّى الموت بدل أن أقدّم جسدي لجلاّدي حتى يشبع رغبته.
- لا تنتظرن حلاّ. لقد وقعت الفأس بالرأس فأقّل ما يمكن أن نفعل هو أن نقبل بالأمر ونحاول استغلاله لصالحنا. كنّ متساهلات معهم حتى ندرأ عنّا إمكانية التعنيف والضرب الذي لا زلنا ننتظر منذ ثلاثة أيّام. لتشحذ كل واحدة منّا إرادتها وتتملّك بقلب من اشتهى معاشرتها. سبق وأن رأيتنّ سهولة الإفراج عن الراقصة التي مرّت من هنا اللّيلة الفارطة ولا شكّ أنّها الآن تنعم بحريتها وتتمتّع بمغامراتها الليليّة.
- وماذا سنفعل في أمر فقدان بكارتنا أو إمكانية أن نحبل؟
- أمرنا بيد الله. نعرض أنفسنا على الأطبّاء حالما نغادر السجن.
...
أطلّ أحد الأعوان ملتفّا في منديل الحمّام. كان شابّا حليق الذقن مستو الشنب عريض الكتفين مفتول العضلات بارز الصدر.
ايه. يا لها من بحبوحة . لقد تخلصت من تعب يوم كامل لمطاردة المشاغبين.
فهمت البنات أن إطلالة الشاب بتلك الهيأة إنّما هي دعوة أو اقتراح لمن لها أكثر استعدادا لتوفير راحة ذكر بالنّوم في أحضان أنثى.
لم تتجرّأ أي منهن على المبادرة لكن كل واحدة منهن استرقت النّظر للأعلى ثم تفحّصت قسمات وجهي صاحبتيها لتقرأ عليها ما يدور بذهنهما.
ربّما تمنّت كل واحدة منهنّ لو كانت بمفردها في هذا السجن لتأخذ قرارها دون أن تحسب حسابا لموقف صديقتيها. و قدّرت كل واحدة منهنّ أنّ عليها أن تكون سبّاقة في أخذ القرار قبل أن تضيع الفرصة وتضطرّ للانتظار لليلة أخرى تعاني جوعها ووساختها. سرت في نفوسهنّ رغبة انتهازية أنانيّة و باتت كل واحدة تمتعض في صمت من وجود صاحبتيها و تلقي باللائمة عليهما بل تعتبرهما سببا لتعاستها وقنعت بأن الأخريين إنّما تمثلان عائقا لخلاصها وجحيما يعاود الاشتعال كلّما همّ بالانطفاء.
- من تريد منكنّ الاستحمام؟
- أنا..أنا..أنا..
كانت الإجابة جماعية ومتسرّعة نطقت بها الألسن في غفلة من حدود العقل المتسلّط ثمّ ما فتئن أن عدن لرشدهنّ لتطأطئن ثلاثتهنّ في خجل ولوم لذواتهنّ واتّهاما للأخريين بالفسوق والانحلال.
- لن أقدر على قبولكنّ جمعا. واحدة فقط. عليكنّ أن تتنازلن لبعضكنّ وتخترن الفتاة الأكثر شجاعة.
تململت حياة وهمّت بالقيام فسبقتها صاحبتيها وصرن واقفات في انتظار من سيسمح لها بالصعود.
- انتبهن. قلت واحدة فقط.
لا شكّ أنّ عقدة قابيل عادت لكي تتمنّى كل واحدة منهنّ إزاحة صديقتيها والتفرّد بهذا الرّجل لتجرّب معه حيلة شهرزاد. لكنّ الشعور بالإهانة أثناهنّ عمّا قبلن به ثمنا لقضاء ليلة في ظروف إنسانيّة. أمل ضعيف يحدوهنّ لطرق باب العواطف عن طريق المتعة الجنسيّة لعلّه يكون فاتحة لتتحررن من سجنهنّ.
فجأة، سمع صوت محرك سيّارة تتوقف في الخارج، وهرع الأعوان إلى غرفهم و أطفأت الأضواء وكلّ تظاهر بالنوم. بعد برهة أطلّ ضابط سام من الشرفة وأشار على الموقوفات بالاصطفاف أمام باب الخروج قبل أن يفتحه عون ويأمرهنّ بالإمضاء في دفتر كبير ويغادرن المكان مترجلات سائرات لغير وجهة في شارع مظلم نامت فيه كلّ حركة عدى بعض القطط التي تبحث عن قوتها في حاويات القمامة."
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق