ضراوة الغربة..ووجَع السؤال:
قراءة أولى في ديوان-عتبات الذهول-للشاعر التونسي القدير أنور بن حسين (مجموعة شعرية أنيقة حفلت بها المكتبة التونسية والعربية)
“القصيدة تكتب شاعرها” موريس بلانشو
تصدير: ذات لقاء معه على ضفاف نهر الإبداع،أكّد لي الشاعر الشاب أنور بن حسين أنّ الحياة داخل القصيدة،غير الحياة التي يعرفها الآخرون،فالقصيدة لدى الشاعر حياة جديدة تتعانق فيها رعشات الإحساس ونبضات القلب وموهبة الفكر ونتاج العقل.."
وأنا أقول: لم يعد للوعي مكان لأنّ اللاوعي استحوذ على أمكنة النزيف والبوح،إلهام كالسيل الجارف يحمل إلينا عبر أجنحة الغيم عبق الذات المنصهرة في الزمن،يحمل إلينا فسيفساء فكرية رائعة،تفننت قريحة الشاعر-أنور بن حسين-في نحت مجموعته الشعرية لتصير غواية البحث عن أسئلته الرابضة خلف دلالات القصيدة هاجسا جميلا يطارده في كل لحظة،لأنه اختار القصيدة منفى له يفرّ إليها من واقع مؤلم باحثا عن فوضى جديدة ولكنها أجمل من عالمه الخارجي،وأرحم وسادة يتوسّدها ساعة-الإشتباك-مع القصيدة،والسفر إلى عوالم الحس الفلسفي بسريالية جديدة تلج ذواتنا دون إستئذان.
هكذا يسافر بنا-الشاعر أنور بن حسين-عبر -الغيوم الماطرة-إلى عالمه الإبداعي الخاص،حيث الصفاء والهدى والتجلي،ليعيشَ في رحاب غربة يستلذّها،بل يتحداها بأسلوبه الإبداعي المتميز متطلعا إلى غد أفضل تنتصر فيه الكلمة للإنسان الحر،وللشاعر الذي يدحرج بإرادة فذة لا تلين -صخرة سيزيف-من تخوم الحرف إلى أقاصي الكلمة..
"عتبات الذهول" إبحار في سراديب الذات،ومصباح في زجاجة من الأرق والألم،والقلق،والسؤال،إنّه ايغال في واقعنا الحاضر لا يملأه إلا الفضاء،وهو أيضا بحث عن دفء الرغبة في ظل سكون،وصمت،رهيبين يقلان صخب الرعشة والحلم.
تطلّ علينا هذه النفس المتشظية والهادرة من عتبة هذا المجموع الشعري،وعتبته عنوانه،وعنوانه يؤجج الإحساس فينا بوجع صاخب يهجع خلف الشغاف..
إنّ صيغة عنوان هذه القراءة النقدية لنصوص هذه التجربة الشعرية،مستوحاة في جوهرها ممّا تتأسّس علي تلك النصوص الشعرية من مرجعيات كتابة وأسئلة متن ومستويات كلام تُسهم مجتمعة في تشكيل الكون الشعري وتحديد المفيد من سماته الفكرية وخصائصه الجمالية.فالذاكرة حاضرة بكثافة في تشكيل مُجمل نصوص هذا العمل الشعري..نصوص تستعيد الذاكرة أفق خلاص من حرائق الراهن،ترتحل عبرها إلى زمن ماض يبدو أرحم وأرحب..هي ذاكرة فرد:الذات الشاعر،وهي ذاكرة جمع:مجتمعة،وهي ذاكرة الإنسان:الإنسانية…فالشعر خطاب يتجاوز حدود الذات الضيّقة،ليعبّر عن هموم الجماعة قبل أن يصوغ أوجاع الإنسان في المطلق..
ويبقى الشعر رسما بالحروف والكلمات..ينفتح على الرسم التشكيلي فيستعير بعض ألوانه وأشكاله ورؤاه الجمالية تشكيلا بصريا للكتابة الشعرية على بياض ورقة الكتابة..بعد أن تداعت الحدود بين الفنون فتداخلت التخوم..
تتثاءب الحروف..وتتململ الكلمات كي تتشكّل ابداعا شعريا يلامس نرجس القلب،وذلك في شكل فضاءات دالة على ما يشكل هذا العمل الشعري من عوالم إبداع..يتقاطع فيها وَجِدُ العشق بوجَع الحصار…
تتعدّد المداخل إلى النص الشعري المعاصر وتتنوع،بحكم أنّه يبقى قابلا لأكثر من صورة تأويل،ومنفتحا على أكثر من شكل احتمال للمُمكن والتوقع للكامن.فمدار الإبداع عامة والشعر منه خاصة،بحث يسكنه الإرتحال إلى المجهول من الآفاق،والقصي من جماليات الكتابة ودلالات الفكر..توقا لتحقيق المغايرة للسائد الشعري..وتبدو ملامسة تخوم الكون الشعري الذي تنحته نصوص هذه المجموعة مدعاة للتأمّل عبر عنوانها:"عتبات الذهول"بإعتبار أنّ مثل هذا العنوان قد يختزل مُجمل العلامات الدالة على أسئلة متنه الشعري وجماليات صياغتها.فالعنوان،رغم ما يشي به-بعده المجازي-،إلاّ أنّه يُضمر كتابة دلالية تجعل منه أحد المفاتيح الأساس لفتح مغالق النّص الشعري،والكشف عمّا تبطنه من دلائل لا تخلو من علامات غموض وتعتيم،وتتوسّل به من أدوات كتابة سحرية،تبقى دوما متغيرة،ومتحوّلة من تجربة إلى أخرى،وحتى من نص إلى آخر داخل التجربة الشعرية الواحدة..فجوهر الإبداع تجاوز ينبغي دوما أن يدرك المدى الذي لا يُدرك،للكائن من الأشكال،والراهن من أسئلة الشعر..
نحت الشعر..في دروب الإغتراب:
لعلّ الإحساس بالإغتراب في زمن-ضللنا فيه الطريق إلى الحكمة-يشكّل أبلغ محفّز للأداء الكتابي،بإعتباره يمثّل إنقلابا حادا في سياق الحياة الإنسانية وعلى كل المستويات،الزمان والمكان وأبعاد شخصية الإنسان وتداعيات تحولاتها على مستوى الأحداث التي مرّت وتمرّ به.كما أنّ-الإغتراب-يحرّض لدى الشاعر موجهات جديدة لمواقفه إزاء الوجود .مما يفضي به إلى إتخاذ أو تبني رؤى وتطلعات تتباين في مديات إندياحاتها الفلسفية.وذلك بنسب تأخذ بالإزدياد صوب العمق والبلاغة كلّما تتوغّل المواجع في ضراوتها وتزداد وعورة تضاريسها.
غير أنّ درجة حساسية الشعور بالأسى تتباين من إنسان إلى آخر تبعا لمرجعياته المعرفية ومديات إنغماره في سبر أغوارها أفقيا وعموديا.وهذا ينسحب أيضا على مستوى الكتابة الشعرية.فكلما كان الشاعر يمتلك ثراء معرفيا معززا بتجربة شعرية،كلما تمكّن من إنتاج نصوص تداعب الذائقة الفنية للمتلقي وتدفع به إلى إعادة قراءتها لإكتشاف الفسح التي تمنحها إياه لمزيد من التأويل المفضي إلى إنتاج نصوص ما بعد القراءة.
فكيف بنا والشاعر أنور بن حسين الذي انبجس من مدينة شاعرة/حالمة-سوسة-ونهل من-غيمها-الماطر-،تمرّس على الكتابة الإبداعية على ضفاف البحر كما على تخوم المواجع،وتعلّم بالتالي هضم الأسى الذي ينتاب الشعراء أثناء تحليقهم في الأقاصي،بمخيلة أضراسها المعرفة.”شيخ يجلس على أريكة شاطئ منسي/يتوسّد كتابا يروي خطايا الغابرين/أرسل روحه ترقص على أنامل الموج/طفق يقرأ تعويذة/وهناك في الأفق/قارب صيد يركبه فتى/ يبدو ُمجدفا نحو اليابسة/لما أرسى/قصّ نبأ العاصفة/يبس الكلام على شفتيه.."
لا يخلو هذا المنجَز الإبداعي من بعد مجازي تتلاقح عبره دلالات النصوص الشعرية وتتوالد لتمحص الهم الشعري،والرؤية الغدية،في إرتقاء من الذاتي إلى الجمعي،ومن المحلي إلى الدولي،وتتوالى الصور المجازية،والإستعارية،بأساليب يتعرى من خلالها عالم الشاعر الشعري،فيعرض الضيق النفسي،والواقع المر المكبّل بظلام الحاضر،والمدثّر بنار الإنعتاق،ويصاعد الضيق والحرج بالنفس حتى تصرخ (نسخر من قحل قولنا/نلبس رداء الفيافي/نرفع لبس الأسطورة/وسطور الأولين/نتجرد من كل شيء/من وعينا المنهك على عتبات الغروب/من الأيادي البيضاء/من انصياح صبح على حافات الردى/ننتظر البدرَ/ لنغتسلَ بذروة الكلام/ونمزّق القناع..."
لنركس،بهذا التوجّع،في تاريخ المشهد العربي المترجرج،ونسمع صداه لدى المسلم الأوّل:”متى نصر الله” ويجذبنا بعد الصور المجازية،والإستعارية وإدراكها،بما تخلقه من مفأجأة القارئ بإنعتاقها من عقال الوهم،وبجنوحها الموغل في الغرابة والتخييل،بما يشبه ما أسماه”إمبسون”بالنمط السادس من أنماط الغموض،حيث المخالفة قائمة بين وضع الصورة في النص،وبين وضعها في الذهن،لأنّها تتخطى توقيع علاقات محسوسة،ومعقولة،يعيها المتلقي،إلى البحث عن إيجاد علاقات يمثل اللاوعي مصدر تشكيلها الوحيد،تجوز من خلاله المرئي والمسموع والملموس،والمعقول إلى الحلمي والوجداني،حيث تبدل معاني الألفاظ غير معانيها،وتتلبس بالسياق،لتنبجس منها علاقات متعددة،ومختلفة نحو التناقض الذي يولّد الإنسجام..ومما راقني في هذا القلب وهذا الكشف قول الشاعر:"إلاهي/سلاما على الرسل/لقد علمونا أساسَ البناء/يد الله فوق الآيادي/ وأن لا مراتب تعلو/ وأن لا مناصب بشرى/ جناح العقول كأشرعة/ تسافر في اليم صوب المعالي/ فهل لي بنصف رغيف/ وحسن مآب/ فإنّ ركّاب المعاني لزلفى/ تعود إلى ساعة الصفر دهرا / لنمضي إلى حيث نمضي/ كعَود وبدء/ نشيّد من الحب صرحا/ ونبني خيلا لذكرى.."
وفي أثناء هذا النشاط النصي والنموّ الشعوري تتخلّق اللغة الشعرية بتخصيص خصائص نصية علائقية من خلال حركة ذات أهمية قصوى في البناء الشعري،تتفاعل فيها العديد من الآليات والمؤثثات الشعرية تتغيأ إنتاج رؤية للمحيط والخارجي.وتتعمّد تفعيل الإنفعال في الآخر..
ما من شك إنّنا نواجه شاعرا ذا فطنة ودراية بالشعر.شاعر ناهض-المواجع-ولم يستسلم لوحدته.فقد حرّض القلم كيما يكون أنيسا له في خضم مواجعه،غربته واغترابه..
تلك هي فلسفته الداحضة للإغتراب والمواجع..”والجدير بالذكر أنّ معرفة المعجم الشعري للتجربة يساهم بوضوح في كشف عوالمها الداخلية،كما يسهم في تلمُّس معالم رؤياها ذلك أنّ اللغة مقرُّ كينونة الأشياء”(1)”،وأنّ الوجود يكتشف فقط من خلال اللغة،ويبدأ وجوده عند الإنسان لحظة كشف اللغة عنه كما يقول هيدجر”(2):”والدراسة الإحصائية تضع أيدينا على بعض الترددات ذات المغزى،والتي تسهم في رصد المحاور التي يدور عليها الخطاب”(3).
والملاحظ أنّ المتن اللغوي للخطاب الذي بين أيدينا شأنه شأن الشعر الحديث عامة يغلب عليه مفردات الوجع والغربة والخواء والإستباحة والموت والإستبداد..وآهات مدن تتوجّع وجراحها تنزف:" وبغداد تاريخ مجد/ تراها قناديلَ صبح/ على قاب قوسين ترنو/ كمتن الفلاة يغازل وجه بسوما/ دمشق تنادي على حبل مشنقة/ فحقّ العتاد لأعدائها/ وفي حلب مجزرة/ وطفل يموت عزيزا/ يوارى التراب بروح الأمل/ ويا أيّها اليمنيّ/ فداك فؤاد جريح/ وحرف يسيل/ بفيض سلاما يرمّم جرحَ القرى/ وبيروت شمس/ تطلّ علينا كأمنية من نوافذها.."
ومما يشي بوعي رؤيا هذا الخطاب الشعري للعالم المشتهى المتخيّل عالم المستقبل قول الشاعر:” وحين تراودني تونس/ أعود سفينة عشق إليها/ وأسعى بلا وهن/ فكل الأماكن أرضي.."
بعد ما تقدّم يمكن القول إنّ أنور بن حسين كان عارفا بأهم ميزات قصيدة النثر،فبنية القصيدة الداخلية والخارجية تقوم على التنوّع في الإيقاع واللغة والسرد والشخوص.هي عالم من وحدة نقائض-هدم وبناء-وتنوّع في الصيغ الشكلية والإشراقية وعلى كل المستويات.وهي بالتالي إنجاز إبداعي يتسوّر محراب المعاناة والواقع المؤلم ويقدّم في ذات الآن حلما باشلاريا عبر صور وعلاقات شعرية وثنائيات وأضداد،وإيقاعات سردية وفنية تركس في الماضي وتعمّق الإحساس بالحاضر وتستشرف المستقبل.." أنتصف بَدرا على خصر المسافة/ أتمطّط بين الأسفل والأعلى/ أقطف بسمة من الوجه الهلالي/ أزرعها في ثنايا الخفاء/ أنسج شراعا من شقوق الفراغ/ أتوسّل حرفا يكتبني/ يرمي بي في بؤرة النور/ أمتدّ بيني وبين الضياء مساحة شبر/ أتّسع كهالة الضوء كوكبا/ لا تطاله عدسات الرؤيا.."
و”عتبات الذهول”بهذه الصورة تنم عن دراية ومران كتابي من جهة،ومع فكرة الشعر من جهة أخرى،وليست فكرة الشعر سوى الأرق والسؤال،نحسهما في كل كلمة،في كل نبضة،في كل صورة،في كل قصيدة،فيوحدنا مع الشاعر قلق الصور وبلاغة الشعر بمنآى عن التقليد المفتعل المثير للشكوك،والذي درج عليه الطارئون..
ولنا عودة إلى هذا المنجز الإبداعي المدهش عبر مقاربة مستفيضة..
محمد المحسن
الهوامش:
1-)المرايا المحدبة/305/للدكتور عبد العزيز حمودة.ط1 الكويت 1998.
2-)المرايا المحدبة/153-154/.
3-)تحليل الخطاب الشعري/60/ط 1 الدار البيضاء 1968.الدكتور محمد مفتاح.



ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق