قصّة قصيرة
**نبوءة الأرجل الحافية**
أنا الراوي الذي يجتهد لكي لا ينسى التفاصيل، لا أريد أن يكون لي اسم لأنه لا معنى للأسماء، ألم يقرّ عالم اللسانيات الحديثة فردينان دي سوسير بـ"اعتباطية العلاقة بين دوال اللغة ومدلولاتها؟"، لنكن بأي أسماء أو أي ألوان، المهم أن تسمعني أيها النادل، أن تروي حكايتي التي سأرويها لك لأنني اكتشفت أنك سمّيع رغم فائض الثرثرة لديك. أضف إلى ذلك ان قهوتك معتقة ورائحتها تسكر.
حينما كنت في عمر فقدت فيه تلقائية الأطفال وتجشّمت صفات الرجولة قبل الأوان. في قريتنا النائمة في حضن منبسط من الأرض أشبه بالبحيرة، وفعلا كانوا يطلقون عليها هذا الاسم، كانت تحيط به سلاسل من الهضاب والجبال، كنا نلعب ولم نكتشف حينها أننا أكبر من طفولنا بأشواط زمنية ضوئية، لقد شخنا قبل أن نكبر، ألعابنا ليست سوى تجسيد للقهر، كان الرأسمالي المترف فينا هو صاحب الكرة، أو هي في الحقيقة شيء يشبه الكرة وليس بكرة، لفافة شبه مستديرة من الأقمشة ذات الألوان الباهتة، نشدها بين والحين والآخر كلما انخرم نظامها. توضع الكرة في منتصف بطحاء لا يسمح لنا بأن تكون سهلا منبسطا بل تُقام في ربوة من الأرض الغليظة تتناثر فيها الأحجار الصغيرة والحصيات ذات الألوان المختلفة، كنت أحبّذ حراسة المرمى لسببين أراهما شديدي الأهميّة: أولهما أنني أعشق مشاهدة الكمّ الهائل من الأرجل وهي تتدافع كالطوفان للظفر بالكرة، أرجل حافية دامية تدمع دما قانيا سرعان ما يتجمّد ليشكل خيوطا سوداء تتسع أحيانا وترق أخرى، ولكنها تحفر في الذاكرة "ولدنا حفاة ولعبنا حفاة وكبرنا حفاة ولازلنا حفاة".
أما ثاني الأسباب هو النزوع للتأمل، وكأن المشهد برمته -بما فيه من تلقائية نفوس لا تعبأ بالعراء وبالأرجل الحافية، كل همها ملاحقة كرة القماش والسطو على مالكها البورجوازي الصغير- لوحة متحركة بخلفية ساكنة لجبل جاثم على أطراف القرية، يعد مواليدها الحفاة الجدد ويأوي موتاها في سفحه المتكلّس ارتسمت تجاعيده على جباه الشيوخ والعجائز خيوطا تارة تتشابك وأخرى تتنافر وتتوازى، اللوحة شديدة الحركة عنوانها الصراع: صراع على كرة القماش، صراع على القوت، صراع على السلطة والجاه والمال والاستعباد، صراع من أجل الحرية، صراع من أجل صبية حافية القدمين ولكنها تنضح أنوثة ورقة وجمالا.
كانت الصبية تُدعى سمراء، ولم تأخذ من سمرة الأرض إلا الاسم، كانت قطعة من الثلج تعلو وجهها بعض الحمرة التي تشي لكل من يراها بأنها علامة حياء تتورد وجنتاها حين تتقاطع نظراتها مع المتلهفين لرؤيتها في كل ذهاب وإياب.
المشهد المتحرك المتصارع المتماوج يتجمّد عند مرور سمراء، تثقل الأرجل وتصير أوتادا مسمّرة في الأرض، وتشخص الأعين، وتلتوي الأعناق طولا وقصرا.. كنا صغارا ولكننا كنا نعرف الحبّ ولا نبوح به خجلا ورهبة. المشهد في غاية البساطة يتعاود كل يوم، ولكنه مستفز ومرهق، سمراء تقود قطيعا من الأغنام والماعز، قليل العدد، نحو المراعي في سفح الجبل، تمرّ حافية القدمين، خاوية الوفاض من الأحلام الوردية والأمنيات الجميلة. عالمها لا يتعدى مصاحبة قطيعها وكل المنى حين تجود السماء بغيثها وتجود الأرض بكلئها، هي يتيمة لا عائل لها ولأمها ولأخيها الذي لايزال تلميذا في المدرسة الابتدائية التي دخلتها على عجل وخرجت منها بنفس الوتيرة.
صوت بداخلي يحملني إلى هناك، أو يحمّل الذكرى في ما تبقى من ذاكرتي المترهلة، ذلك الشمل القديم تلاشى ولم يبق منه سوى صور ضبابية، ولكن الأهم أننا لا نزال حفاة عراة، ولا تزال أقدامنا الدامية تسير على الإسفلت الملتهب تبحث عن طريق لا يشبه الطرقات المعفرة بالتراب، سمراء كانت من نصيب الرأسمالي الصغير صاحب كرة القماش، ولكنه استطاع –بما ورثه عن والده- أن ينتعل حذاء جديدا ويدفن كرته القماشية في قعر الأرض لكي لا يتذكرها. سمراء افتقدها السفح وافتقدتها الأرجل الحافية والأعين التائهة، تحولت حياتها من البساطة والانبساط إلى الرفاهة الخانقة، لم تتعوّد كغيرها من المسوحقين على الرخاء. أو لنقل إن رخاءها سجن مشيّد من بين آلاف السجون التي ندخلها إما بأجسادها ونُساق إلى عذاباتنا التي لا تنتهي وإما ندخلها بأفكارنا التي سحلوها على الإسفلت.
أما أصحاب أمواج الأرجل المتلاطمة تفرقوا في أصقاع الدنيا وكان كلّ منهم يحمل حلما، وكل الأحلام لا تعدو سوى سترا لذلك العري الجسدي والنفسي، الحلم أن يشتري لطفله كرة حقيقية يمكن تمطيطها على السطح، ألاّ يحتجب الجمال من الفضاء وتتسع الشوارع لتحمل ذلك النهم للقاء. وان نخرج مفهوم السجون من عقولنا وفضاءاتنا، سُرقنا طفولتنا وسُرقنا شبابنا في البحث ولا نزال كهولا متعبين بشيخوخة مبكرة.
أنا الراوي أجتهد لكي لا أنسى التفاصيل، حين كنا نحتج وتعلو أصواتنا ويفرقنا البوليس بالقنابل المسيلة للدموع. رغم الغبن الذي يلاحقنا كنا حالمين بأن الوضع سيتغير وتزهر كل الحقول الجرداء وتأنس الأرجل بأحذيتها الجديدة. كانت علاقات الحب تزدهر في أيام الاحتجاجات، حب التحرر وحب الآخر وحب الوطن الذي سرقوه منذ زمن بعيد ولا يزالون يتاجرون بآخر ما تبقى من قلاعه.
النادل في نبرة حنوّ "سيدي حان وقت الإغلاق وكأسك لا تزال تنتظر، وحبيبتك لن تأتي، انقطعت عادة قدومها، كفاك انتظارا وإن شئت أن تحتج فافعل ولن يحرجك البوليس ولكن الساسة سيسمعون ويعدون ثم يعدون إلى أن تملّ الانتظار.. وربما تنتحر أو ينتحر حلمك، إجاباتهم واحدة تتلوّن 'لا نزال في ديمقراطية ناشئة، عليكم بتحمل العبء حتى نقف على أرجلنا' وحبيبتك مكلومة مثلك، تقطّت بها السبل لتأتي ولكن المتاريس انتشرت على الطرقات .."، هكذا رنّ صوت النادل في أذني، أيقظني وجعلني أحسّ باليتم، كم أتعس بوحدتي حين لا أجد من ينصت. تغير المشهد المتحرّك من أمامي، عتبات من الحلم الضائع.
لملمت أشلاء البعض مما تبقى من بعضي وارتشفت آخر قطرة من إكسير الحياة، ودّعت النادل ضاحكا واندلفت إلى الشارع الطويل، ألتقط عناقيد الذكرى وأبحث عمن تشبه سمراء المتوردة لأروي لها حكاية الصبية ذوي الأرجل الدامية، وأذكّرها بأننا لم نكبر بعدُ.
وفي هذا الخضمّ رأيت جمعا من القطط تتبارز من أجل بقايا الطعام المبعثرة على الأرصفة، هذا الصراع الدامي جعلني أوقن وأتمثل قصائد مظفر النواب والصغير أولاد أحمد وغيرهم ممن تجرّؤوا ونبشوا الحقائق، وما توحي به من أن الرعاة يريدوننا أن نكون حفاة عراة نتصارع من أجل الفتات كالقطط تماما، يريدوننا ألا نشبع أبدا، يعطوننا مع يجعلنا نستمر في الحياة دون حياة.
سمراء بكل تحمله من معنى تركت في وفينا جرحا غائرا لست أدري متى يندمل، وأنا في تيهي، رنّ هاتفي مؤذنا زمن عودتي حيث أبتعد في الخلفية وأكمل مشاهدة المشهد.
بقلم: عبدالستارالخديمي

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق