الفصل السابع
الليلة الأخيرة
قصة "الدرويش الفنان"
______________
حلت الليلة الأخيرة. استعد شهريار للنوم، بينما كانت شهرزاد تفكر في نجاتها من القتل، وكانت شقيقتها الصغرى، تتأهب لسماع الحكاية الأخيرة.
كانت شهرزاد في سريرها
خيم شبح القلق على كل الوجوه، واضطرت دنيازاد، الى أن تطلب من شهرزاد، قصة جديدة فقالت: " رجاء يا أختاه، اروي لنا قصة أخرى من قصصك الممتعة، وأضاف الملك قائلا: لتكن قصة "الدرويش الفنان".
فأجابت شهرزاد: "على الرحب والسعة"
وراحت تروي القصة:
"بلغني أيها الملك السعيد، ذو العقل الرشيد، أنّ الدرويش الرابع أنّ قصتي أغرب القصص التي سبق أن رواها كل الدراويش، لكنني أخاف أن أحكيها فأجلب الشقاء لنفسي ولرفاقي: كنت خياطا، أخيط ملابس الأعياد.
لم أقنع بوضعي، بعد أن سمعت بوجود مدينة بعيدة، يحكمها ملك قوي، يستقبل في قصره كل من اكتسب فنا أو صنعة أو حرفة، وكان شرطه الوحيد أن تكون هذه الحرفة جديدة ومبتكرة.
تقبع هذه المدينة في بلاد الروم، لا يدخلها إلا الفنانون والمبدعون. فتحت ورشة، ثم أروقة، وضممت إلى دائرتي عدة فروع صغرى، ونلت التكريمات غي عدة مدن مجاورة. ولكنني كنت أنوي الوصول الى تلك المدينة التي تفتح أحضانها لكل مبدع دون أن تبحث في درجات فقره المعرفي أو المادي. كان الوصول لذلك الملك القوي، يعني لي الكثير، لاني سأعبر البحر نحو بلد لن أجوع فيه، وأحضى برعاية الملك، وربما سوف اصبح أحد مستشاريه في مجال الفنون. ودعت عالم الحياكة وسلمت كل ما له علاقة بالحياكة لزوجتي، وصرت موهوسا بالفن وعوالمه.
لم تكن دراهمي تكفي للسفر، وكان علي أن أترك لزوجتي زاد سنة كاملة، فربما قد أعود غانما من سفري لبلاد الروم، وربما يقع اعتقالي، ولا تنطلي حيلتي على الملك، فما كنت يوما فنانا، ولا كنت موهوبا أو حتى حرفيا بارعا، وحتى الحياكة كانت بالنسبة لي مجرد عمل استرزق منه لقمة العيش.
سرت هائما في الشوارع كالدراويش، وبينما أنا كذلك، غشّت عيني سحابة رمادية، وسقطت مغشيا علي. فتحت عيني بعد برهة لأجد نفسي أمام رجل ضخم الجثة، مكتنز الأكتاف، طويل الشاربين، في يده مصباح مضيء، وصرخ في وجهي قائلا: أنا فرطاس ابن بهمطاس، اغريقي الأصل، اغرمت بالفن وصنعت منه تجارة، وصارت لي قلاع فنية في كل مدن الكون، فهل لك أن تسوس قلعتي هنا، فقد بلغني أنك فنان موهوب، وتطمح في مال منشود. أمسك هذه ألف دينار، أريدك أن تضم الى عشيرتك رفقة كبيرة من تجار الفن، وأن تسافروا رفقة رجالي على سفينة فرطاس، وعندما تصل إلى ملك الروم، عليك أن تنجح في اقناعه بابرام الصفقة مع قلاعي الفنية، ولن يكون عليك سوى تنفيذ أوامري، ولا تفكر في مصاريف رحلتك.
اندهشت من كلام الرجل العملاق، ولم أعرف أن كان جنا أم إنسا، لأنه ذهب دون أن يُسلّمني عنوانه. كانت يدي تمسك بمبلغ مالي، لم أحلم به طيلة حياتي. تعثرت قدماي ، وعندما نهضت وجدت نفسي أمام سفينة كبيرة، في عرض اابحر، ملئت مؤونة، ولوحات فنية من كل العصور، يركبها رجال شبان من مختلف الأعمار.
وصلنا بعد فترة إلى جزيرة، نزلنا على شاطئها واسترحنا بضعة أيام، ثم أبحرنا من جديد. لكن خلال إبحارنا ظل البحر يرتفع أمامنا والأرض تتضاءل من خلفنا. نظرنا خلفنا فأبصرنا غيمة كبيرة غطت كامل السفينة. ارتعدت كل أوصالنا ولم يعد القبطان قادرا على التحكم في مسار السفينة.
كنا في قبضة يد عملاقة، تناولت سفينتنا كما لو أنها تتناول طعاما في آنية، وارتجت الدنيا تحتنا، وازداد صراخ كل المسافرين.
بعد لحظات، انتصب أمامنا سلم ذهبي طويل، فصعدنا اليه واحدا تلو الآخر، لننجو من هول العاصفة. وعندما وصلنا آخر السلّم، أوجدنا أنفسنا أمام رجل ضخم، أنيق الملابس، غائر العينين، كثيف الشعر. حدق فينا واحدا واحدا، ثم ألقى بكل لوحاتنا في الماء، وراح يصرخ:
أنتم ذاهبون لمصير محتوم، إمّا أن تعودوا من حيث جئتم، وإمّا أن انتقم منكم من حيث لا تدرون...تسافرون باسم الفن وأنتم عن الفن غائبون..عن أي فن تتحدثون..ليس الفن تأشيرة عبور لبلاد الروم، وليس الفن تجارة كما تتصورون...فهل تعلمون من أكون؟
لم ننبس بحرف واحد.
فأضاف: أنا الفن الذي عليه تتزاحمون، بريء منكم ومما تصنعون، هذه ليست لوحاتكم وأنا أعرف أنكم كاذبون. اغربوا عن وجهي أمامكم يوم واحد للتفكير، إمّا أن تعودوا إلى أصلكم وإلا أن يتم مسخكم إلى ما لا ترغبون. هبت ريح عاصفة ثم غاب الرجل بعيدا، وحلت مكانه حمرة مخيفة غشت موج البحر الهائج.
أضافت شهرزاد: كان على الدرويش الفنان، أن يُقرّر خلال يوم واحد ماذا عليه أن يفعل: إمّا أن يتراجع عن قرار سفره الى بلاد الروم، وإمّا أن يتم مسخه الى كائن غريب ويظل على تلك الحالة طيلة حياته.
وهنا أدركت شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح، وقالت دنيازاد لأختها : يا لها من قصة مدهشة يا أختاه! فردت شهرزاد: "هذا لا يقارن بما سأرويه لكما غدا إذا تركني الملك على قيد الحياة. "
د. فوزية ضيف الله تونس

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق