مـــرآة الطفولة بين الرائي والمرئي في " سرد الذات".
للدكتور سلطان بن محمد القاسمي - قراءة ريم العيساوي
مدخل : العلاقة بين فنّ السّيرة والمرآة .
لكي نتبيّن مدى الارتباط الوثيق بين المرآة والسّيرة الذّاتية في الأدب والفلسفة أوبين المرآة والصورة الذاتية self- portrait يكفي أن نلاحظ من حيث الشكل فقط ،أنّ أغلب المفكّرين،إن لم يكن كلّ المفكرين الذين كتبوا سيرا ذاتية يستخدمون مجاز المرآة بشكل أو بآخر، بدءا بأوغسطين حتّى طه حسين،هذا من الجانب الشكلي ،أما من الجانب المضموني نجد المسألة متعدّدة الأبعاد ومتناوسة مع مواضيع أخرى.
فالسّيرة الذّاتية تفترض إمكانية أن يكون العارف هو نفسه موضوع المعرفة أوالمعروف، والذّات هي الراوي وموضوع الرواية والمروي عنه. ورغم أنّ هذه الإمكانية تتيحها المرآة ،ورغم تحقّقها على نحو كامل وواضح في القرنين السّادس عشر والسّابع عشر فترة الوعي بالذّات في الفلسفة الغربية على يد " ديكارت " فإنّها وجدت نقدا من الفيلسوف التجريبي "جاسندي" (1592م- 1655م) معارضا فكرة أن يعرف العقل نفسه أو الأنا نفسها مستخدما أيضا المرآة لدعم حجّته، ونقد ديكارت.* د محمود رجب - فلسفة المرآة - دار المعارف مصر.199 - م - ص 225 .
ولكن إذا كان الأساس الفلسفي والابستمولوجي لفنّ السّيرة الذّاتية قد تمّ الوعي به والتعبير عنه بوضوح كامل في القرن السّابع عشر،ومن خلال فلسفة "ديكارت" على وجه التّحديد، فإنّ السّيرة الذّاتية كانت من حيث الممارسة العملية متحقّقة فعلا في أعمال كثيرة في عصر النهضة، في القرن السّادس عشر،بل وفي العصور الوسطى،سواء في العالم المسيحي أو العالم الإسلامي.
كان استخدام المرآة الزجاجية في القرنين السادس عشر والسابع عشر علامة بارزة في رأي"لويس ممفورد" على بداية فنّ السّيرة الذّاتية الحديث أي من حيث هي صورة للذّات: بأعماقها وأسرارها وأبعادها الداخلية، فقد تبيّن أنّ المرآة تستطيع أن تحيل الذّات عن طريق الصورة المرآوية إلى ذات يمكن فصلها عن الطبيعة وعن تأثير الآخرين.فالذّات في المرآة ليست سوى جزء من الذّات الحقيقية الواقعية، وهي الذّات المجرّدة (inabstracto).
وفي نفس الفترة التي ظهرت فيها بدايات السّيرة الذّاتية أي القرنين السادس عشر والسابع عشر ظهرت العلوم التي تدرس عالم الطبيعة وهي العلوم التي استعانت بأدوات تقنية مصنوعة كذلك من الزجاج (ميكروسكوب،تلسكوب مرايا) والواقع أنّ عزل العالم عن الذّات (منهج العلوم الطبيعية) وعزل الذّات عن العالم (منهج السّيرة الذاتية) كانا وجهين متكاملين لفاعليّة واحدة، تجزئ مجموع الخبرة الإنسانية وتحلّله إلى عناصره الذرية المختلفة التي يتألّف منها، لكي يتمكّن الإنسان من أن يراها بوضوح وتميّز* المرجع السابق ص 223 .
وبناء على هذه الأسس، حاولت الابتعاد عن المفاتيح العلمية الصارمة بمخاطبة القارئ بشكل من التبسيط حتى يتحقّق التفاعل المطلوب.
مرآة الطفولة : في جلاء مرآة الذات كشف لمرايانا.
إنّ الدخول إلى عالم ذات الكاتب في هذا النص السّير ذاتي، يجعلنا نقف على جملة من الثنائيات،ومنها ثنائية الموروث والمكتسب،التي تندرج تحت عناصر المعطيات الاجتماعية والإيديولوجية والفكرية عامة، وهي مؤثّرة في تكوين الكاتب ولا تقلّ تأثيرا عن العناصر البيئية التي تفرض نفسها فرضا على بداية تكوين الإنسان.
والعناصر المكتسبة اللصيقة بتجارب الكاتب في الحياة وهي كلّ المناهل التي نهل منها لتكوين خبرته الشّخصية والفاعلة في بناء رؤاه الخاصة إلى ذاته وإلى الوجود.
وتتصدّر مرحلة الطفولة كلبنة أولى لبناء شخصية الكاتب.واستهلال " سرد الذات " بمرحلة الطفولة يعني الغوص في أعماق الذات وسبر الأبعاد الأولى لتجربة الكاتب.
يؤرّخ الشيخ سلطان مرحلة الطفولة ويوثّق أحداثها بدقّة واهتمام كبيرين،مصدّرا بها عملية السرد، ومن أبرز ما دوّنه وعيه المبكّر في سنّه الخامسة بالحياة وبما يدور حوله من أحداث:" وعيت أحداث الدنيا ولم أبلغ بعد السادسة " ص 7 من كتاب سرد الذات .
إن الدكتور سلطان بن محمد القاسمي ،يدرك أنّ الطفولة هي الأساس من ذخيرة الذكريات بمعنى آخر، أن الأصول الصحيحة للإنسان ترتبط بتجاربه الأولى في الحياة.وما تشريحه لطفولته بصراحة متناهية سوى بلورة عناصر تكوينه الأولى.وأن طفولته تمثل مستودعا هاما،منه مواهبه في الكتابة وفي الشعر وفي الرسم، ومنه طاقاته المتعددة.
ومن الملاحظ أن حديث الكاتب عن مرحلة طفولته فيه من الدّهشة والسّحر،ما يشدّ القارئ، وهذا المضمون جسّد منطلقا في "سرد الذّات "وهومن باب إحياء فترة عزيزة عفت، يجد فيها كاتبها لذّة فطرية مثلما يجد فيها القارئ لذّة القراءة والكشف،وهذا يذكّرنا بشعور" جورج صاند " بالمتعة في تركيزها على ذكريات طفولتها وشبابها، مبرّرة ذلك بكونها تلميذة وفيّة " لروسو"Rousseau الّذي يؤمن ببراءة الإنسان في أصل خلقته، وممّا يؤكّد القول إنّ المرح والجديّة وتلك النزعة البطولية والطموح الكبير لتحقيق الأحلام مثّل مرحلة من وجود غنيّة، وفي استرجاعها استرجاع لمرحلة البراءة والطيبة والحلم.
إنّ صورة الذّات في هذه المرحلة ترسم طفلا في سنّه الخامسة، ذي وعي مبكّر بما يدور حوله من أمورالدنيا، ملتحما بوالده نائب حاكم الشّارقة في تلك الفترة (1944) يرافقه في عديد المناسبات، السارة منها وغير السارة، طفل على خلق كبير وذي تصرّف تلقائي.
يسترجع تلك الفترة الصافية، التي كان يتدرب فيها على ركوب الخيل في حوش الإسطبلات،طفل شاهد على العديد من الأحداث، تلك الأحداث التي تتزامن مع لحظات سعادته، يسرد حادثة انقلاب رأس الخيمة عندما كان يلهوفي الطبيعة وعلى التلة.
يتذكر لهوه مع أقرانه وخروجه للصيد:" كنا نمرّ بحقول القمح التي زرعها والدي على الأمطار في الصالحية بالقرب من الحيل - إحدى قرى العقد الأخضر -نستعمل القلاع لطرد العصافير عن سنابل القمح " - سرد الذات - ص 45.
ولم يمح من ذاكرته يوم دخوله المدرسة بمفرده ووالده بعيد عنه، بسبب إبعاده إلى البحرين من الإنجليز، ولعل هذا الذي كوّن لديه تلك النزعة للاستقلالية وتحمل المسؤولية.
ويتذكّر الشيخ سلطان أحداث طفولته ،متعاملا معها بتجرّد وحياديّة وحتى تلك التي شارك هو في تفعيلها مثل ما حدث له في رحلته مع والده والقائد الأمريكي، وصفها بتجرّد وبلا انفعال:"أصابني دوّار فتقيّأت على ملابس القائد، فغضب مما حدث له، فأدار الدفّة وتوجّه نحو الشّارقة لاغيا تلك الرحلة البحرية " - سرد الذات ص - 8.
أليس هذا التجرّد مبشّرا بتطلع بريء لتحقيق صاحبه طموحات أكبر ؟ أليست هذه الحركة العفوية تحمل في طياتها دلالات بعيدة ؟
وككلّ كتّاب السّير الذّاتية العرب، رسم الدكتور سلطان القاسمي ، صورة الذّات انطلاقا من بيئة عربية تقليدية ، تخضع لجملة من الاعتقادات ومنها الاعتقاد بوجود الجنّ والعفاريت صورة طفل يخاف:كقوله :"بيت عمّي الشيخ سلطان بن صقر القاسمي (..) حيث يسكن الجنيّ، كما كنا نتخيّل.." - سرد الذات ص 14.
صورة طفل جُبل على الصراحة الفطرية يقيّم ذاته بتجرّد و يعلن عن مستواه العلمي مقارنة بأقرانه بكل أمانة:" مازلت صغيرا في فصل عمّ، أما الكبار فكانوا يختمون القرآن"- سرد الذات ص12.
طفل نبيه، لا يقف موقف الحيرة أمام الأمور الغامضة ،بل يرجع لوالده لاستنباط الأجوبة عن كلّ ما لبس وغمض، مثلما سرده في مسألة احتراق السارية الّتي حوّلت إلى حطبة التوبة .صورة الذّات ، طفل معتدّ بنباهته واثق من نفسه ،يسرد ما حدث له مع عمه سلطان حاكم الشارقة عند قدوم صاحب الصندوق العجيب ورغبة عمه في اختباره : "وقفت أمام عمّي الشيخ سلطان وأعيان البلد، وأنا لم أبلغ السنة العاشرة من عمري، أشرح ما شاهدته بكل ثقة وانتباه " - سرد الذات ص 62.
طفل مندمج مع أقرانه يشاهد العديد من الأحداث كقدوم الضّيوف إلى بيت أسرته.
يحبّ الفروسية، ويمارسها مع أبناء عمّه الكبار،طفل محاط بالرعاية من قبل مدربه الذي يخاف عليه لصغر سنّه ولقلّة خبرته .
صورة الطفل الذي يتلقى رعاية والده بالإشراف على استحمامه وحلاقته.ملتحما به،مرافقا له في عدّة مناسبات ، وكم يعامل من الآخرين على أنّه كبير وقادر على الاعتماد على نفسه، مثلما حدث له عند اصطحابه لوالده في مسألة انقلاب رأس الخيمة ،وكيف تركه السائق ليعود ليلا بمفرده في الطريق إلى رأس الخيمة.
يصف رحلته المحاطة بالمغامرة والخوف:" غطس جسمي الضئيل بين الأكياس من حمولة السّيارة، وغرقت في نوم عميق، لم أستيقظ منه إلا على صوت الرامس يقول لي: انزل، نحن قريبون من بيتكم، والسّائق عقب يقول:هل ترى أثر سيارتكم ؟ اتّبع ذلك الأثر وستصل إلى بيتكم.
نزلت من السّيارة ولم يعطوني برهة للتّفكير، فقد تركوني على قارعة الطريق، وواصلوا السّير، وأنا أنظر إلى السّيارة حتى اختفى نورها بين الأشجار.
اللّيل مظلم والقمر لم يبزغ بعد، لأنّنا في الأيّام الأخيرة من شهر ربيع الأوّل، والمسافة إلى بيتنا تقدّر بكيلومتر واحد (..) كانت الذئاب بالقرب مني تعوي فتملّكني الخــوف " - سرد الذات ص 44.
وهنا يرجع بالزمن إلى الوراء متذكّرا هجوم الذئاب على زريبة أغنام شقروه ، فيسرع في الجري متعثّرا العديد من المرّات حتّى يصل إلى خيمتهم.فتتعجّب والدته من تصرّف السّائق قائلة: " حسبي الله عليهم الدّرب كلّه ذئاب " - سرد الذات ص 44.
أليس هذا الموقف درسا في الشّجاعة يتلقّاه الكاتب وهو طفل ؟أ ليس هذا الموقف شاحذا للكاتب على الاعتماد على الذات ؟
كما يسترجع الدكتور سلطان بن محمد القاسمي صورته وهو طفل خجول من شعره الحليق أمام أولاد البدو ذوي الشعور الطويلة.وكيف حظي بمكانة خاصّة عند والده، فهو ملتحم به،وقد عاش معه أوقات حرجة كالّتي عاشها خلال انقلاب رأس الخيمة.
تعكس " سرد الذّات " صورة طفل مغرم بالطبيعة، شديد التأمّل في جمالها، شغوف بها، لا يرضى فراقها،يسرد بعض الحوادث التي أدّت إلى فصله عن الطبيعة واصفا شعوره، وذلك عن هبوب العاصفة مضطرا للعودة إلى الشارقة:" ركبنا السيارة متّجهين إلى الشارقة وفراق تلك المنطقة الجميلة يملأ قلوبنا " - سرد الذات ص 50.
كما يتلذّذ باللّعب على الشّاطئ،متعوّدا كلّ صباح صعود التلّة القريبة من بيت مصيفهم، فهو يلتحم بالطبيعة ويمرح في فضائها بكلّ حرية.يصف مظاهرها من أعلى التلّة بتعابير تؤكّد عشقه لجمالها:" كانت طيور الغربان تحلّق وتحوم في السّماء، فأقلّدها رافعا ذراعيّ، وراكضا بأقصى سرعة إلى الأسفل على ظهر التلّة المنحدرة إلى الشاطئ، وقدماي تلامسان ظهر التلّة بخفّة ورشاقة " - سرد الذات ص 70.
ألا يعبّر هذا الطيران في مرحلة الطفولة عن طموح في تحقيق الشيء الكثير؟ ولعله المستحيل .
وللطفل سلطان علاقة حميمية بالبحر، يقص: علينا :" كانت تسليتنا اليومية الاستحمام في البحر، نبحث عن المحار المدفون في رمال قاع البحر بأقدامنا ، فكانت كبيرة بحجم راحة اليد، حتى إذا ما لامست أرجلنا محارا،غصنا والتقطناه " - سرد الذات ص 70.
والطبيعة من خلال طفولة الكاتب، لوحة فنية مزركشة بأزهى الألوان، رسخ جمالها في ذاكرته:" تنحدر قبالة منزلنا من سفح الجبل إلى رمال الشاطئ، تلة رملية، خالية من الحجر والمدر، لونها كالتبر، عابرة السهل الحصوي.تعودت كل صباح أن أصعد إلى قمة التلة، حيث لاتزال ظلة الجبل تغطيها، أصعدها حافي القدمين، حتى إذا ما وصلت إلى آخر تلك التلة الملتحمة بسفح الجبل نظرت من ذاك العلو الشاهق، فشاهدت القرية المختفية خلف أشجار النخيل والشاطئ الرملي الأبيض، باسطا ذراعيه لاستقبال أمواج البحر المفتوح الممتد إلى ما لا نهاية "- سرد الذات ص 70.
طفل شغوف بالفنون منذ صغره وخاصة الرسم، وقصّته مع الرسّام الهندي الذي اعترضه في السّوق أواخر سنة 1950،والذي كان يرغب في الحصول على تذكرة للعودة إلى الهند فاصطحبه إلى والده جاء في " سرد الذات ":" قام ذاك الرسام برسم لوحات على جدران الغرفة، وكنت أساعده في رسم تلك اللّوحات، التي أضافت للغرفة بهاء وجمالا، قام والدي بعد أن شاهد تلك اللوحات على جدار غرفته، فأكرم الرسّام ببعض المال الذي سيساعده على الرجوع لبلده " - سرد الذات ص 77.
كما أنّنا نستشف من الكتاب ملامح الصبيّ المشفق على المساكين ؛ وتؤكد العلاقة التي تربطه بالطفل اليتيم البصير"مطر فيروز" ،ولنا أن نستدلّ بهذه الفقرة لنلاحظ الصورة المثلى للطفل العطوف:" في الغبّ أسكن مطر وهوعبارة عن عريش من سعف النخيل، وتعوّدت أن آخذه يوميا في الصباح الباكر، ممسكا بيده، إلى مسافات بعيدة...مرّة يمشي، ومرّات كان يهرول..وكنت عينه التي يبصر بها، فكان يحدّثني عن السيرة النبوية وبعض الأحاديث النبوية الشريفة، ومرات يتغنّى بأبيات شعر، جلّها حكم وأمثال " - سرد الذات ص 118.
كما تؤكد سيرة الكاتب تعلقه بوالده وتألمه لتألمه، وقد عبّر عن معاناة والده في مرضه، من شلل نصفي نتيجة إصابته بجلطة دماغية ومن كسر في رجله إثر سقوطه في الحمام وعودة الجلطة له ثانية وذهابه للعلاج في نوفمبر 1959 م إلى البحرين ،حيث رافقه ومنها إلى "بمباي". نقل تفاصيل هذا المرض بعبارات الابن البارالودود.
وأرّخ لوفاته في شهر مارس 1962 م ،مصوّرا انشغاله بوالده، واصفا الإحساس الذي انتابه، عندما قرّر وأخته ناعمة قضاء يومين برأس الخيمة، وعزم على العودة فورا للشارقة متن سيارة أجرة بدافع شعور الخوف على والده، هذا الإحساس الداخلي أوالحدس ،جعل الكاتب يتوجّس شيئا يتعلّق بوالده.ورسم قلقه وهوعائد إلى أسرته :" حتى إذا ما وصلنا إلى الشارقة، وبالقرب من شجرة الرولة نظرت إلى المحال التجارية معلّلا نفسي، فإذا كانت مفتوحة اطمئنّ قلبي، أما إذا كانت مغلقة فلابدّ أن يكون المتوفى ذا شأن، ولكنّي وجدت المحال التجارية كلّها مغلقة " قلت لسائق سيارة الأجرة: انزلني هنا، مشيت إلى بيتنا..فكان ساكنا مظلما، حتّى إذا ما دخلت إلى الغرفة التي ينام فيها والدي، ونظرت إلى السّرير الذي يرقد عليه، فإذا به خال، فكببت وجهي على فراشه وأخذت أبكيه." - سرد الذات ص 275 -276.
ومما تجدر الإشارة إليه، أنّ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي ، في سرده لوفاة والده، عبّر عن عمق حزنه لغيابه: "توفي والدي صباح ذلك اليوم، فصلوا عليه وواروه التراب، وأنا بعيد عنه " - سرد الذات ص 276.
ولعلنا نتبيّن مدى الحزن العميق لأثر الوفاة على الطفل سلطان والذي كان مرافقا لأبيه مرافقة الروح للجسد وبمرافقته اكتسب خبرة في الحياة وفي العلاقات مع الناس .
ويتجلّى برّ الطفل سلطان بأهله في عنايته بجدّته خلال رحلة الحجّ وكيف لقي في سبيل السّعي بها في مكة المخاطر من أصحاب المهنة (النظر في باب الرحلة الدينية في كتاب سرد الذات).
أما تمسّك هذا الصبيّ،رغم صغر سنّه بالدّين ومبادئه يظهر في تصرّفه مع مدير المدرسة الإنجليزية " دي اس ديسلفا " الذي استطاع أن يدخل الإسلام بفضله وقبول هذا الرجل الهندي المسيحي بشروط الإسلام ومنها الختان، وتعكّر صحته بسببه،وحرص الكاتب وهوطفل على دخول هذا الرجل للإسلام،رغم محدودية التوجيه الصحيح إنّ هذا دلالة عميقة على الجانب الإيماني في نفس الصبيّ .
ومما نستنتجه أنّه كلّما غاص الدكتور سلطان في تذكّر تفاصيل طفولته، كلّما أحسسنا بانفعاله وازددنا شعورا بأنّ انفعاله ذلك هوانفعالنا نحن إلى حدّ إغرائنا باستعادة ذكرياتنا وكأنّه في تنقيبه في ذكرياته يوقظ ذكرياتنا سواء بالتقاط ما فيها من تشابه أوبما فيها من اختلاف، وفي جلائه لمرآة أناه فهو يكشف فينا مرايانا.
مرآة الذات الطفولية صقيلة ناصعة الانعكاس، شفافة، ترسم الذات بكلّ تفاصيلها حسناتها وعيوبها، هواجسها، تطلعاتها،صورة بلغ بها صاحبها إلى حدّ الاعتراف والتعرّي، والصدق في التعبيرعن مواقفها وتصرفاتها.
مرآة المراهقة و رؤية الإنسان لذاته واكتشافه لها وبلورة ما تحمله من قدرات وطاقات إبداعية.
تعكس " سرد الذّات " شغف كاتبها بتحمل المسؤولية، وقد حفلت حياته المدرسية باضطلاعه بالقيادة والتكليف من قبل أساتذته ،لما برز فيه من تطلع للتطوع، فخلال سنته الدراسية 1956 م ،كلّفه الأستاذ محمد ذياب الموسى برئاسة فرقة الكشافة وبالتحضير لمشاركتها في المخيم الكشفي العاشر بالكويت، يسرد:" وحتى يكون مظهرنا لائقا، كلّفني الأستاذ محمد ذياب الموسى بشراء قماش لتفصيله " بدلات " لأعضاء الفرقة، وشراء قمصان وأحذية وجوارب وملابس داخلية، فأخذت أعضاء الفرقة معي إلى السوق، وقمت بشراء كلّ ما يحتاجون إليه " - سرد الذات ص 135 .
ولنا أن نستدلّ بكلمة الكاتب وهو في المدرسة القاسمية، تلك الكلمة المرتجلة التي شارك بها في المخيّم الكشفي العاشر بالكويت لنتبيّن شجاعة الشاب القيادي الطموح ووعيه بالمسؤولية وتقديره للمسؤولين، سرد قائلا :"وبدأ الحفل بكلمة من الأستاذ عبد العزيز حسين، مدير المعارف، وكلمة قائد المخيّم الأستاذ عيسى أحمد الحمد، بعد ذلك مباشرة أذاع مذيع الحفل ما يلي: كلمة كشافة الشارقة يلقيها سلطان بن محمد القاسمي.
فقمت، وألقيت كلمة مرتجلة شكرت فيها صاحب السمو الشيخ عبد الله السّالم الصباح، حاكم الكويت، والشيخ عبد الله الجابر الصباح، رئيس المعارف في الكويت، والأستاذ عبد العزيز حسين، مدير المعارف في الكويت، على ما قدّموه لنا من مدرّسين وكتب وأدوات مدرسية.
وقلت في ختام الكلمة: يقول المثل:" من علّمني حرفا كنت له عبدا..فما بالكم بمن علّمني حروفا على مدى سنوات ؟! " - سرد الذات ص 141 .
إنّ الكاتب في "سرد الذّات " شاب منطلق شديد الطموح، ظامئ للنهل من المعارف والثقافة الأصيلة وحكايته مع الكتب ذات دلالة عميقة، يرويها لصاحب مكتبة المؤيد بالبحرين، قصة ذات مغزى يسردها قائلا:" عندما توفي عمّي الشيخ سلطان بن صقر القاسمي في لندن، مرّ أسبوع حتّى وصول جثمانه إلى الشارقة، كنّا نجلس في تلك الفترة مع ابن الفقيد سالم بن سلطان القاسمي في الغرفة الملحقة بمكتبة والده في البيت الغربي (..) كنت أقرأ في الكتب الموجودة في المكتبة، وأطلع على عناوينها فحفظت أسماء أمهات الكتب التي كان عمّي الشيخ سلطان قد قرأها، منها الشوقيات...وجواهر الأدب، وكتاب الحيوان.." - سرد الذات ص 159 .
ويسرد علينا الدكتور سلطان نبوغه ونباهته بعد إتمامه الدراسة في الصف الثاني ثانوي بالمدرسة القاسمية قائلا:" منذ أن بدأت الدراسة في المدرسة القاسمية، وحتى الانتقال إلى الكويت، كان ترتيبي الأول في الصف.اشتركت في جميع الأنشطة الطلابية، فكنت الرقيب الأول على فرقتي الكشافة، ورئيس فريق كرة القدم في المدرسة.واشتركت في المهرجانات الرياضية بست مسابقات في كلّ مهرجان، فكنت الأول في سباق 100م، والثاني في سباق 400 م والثاني في سباق 800 م، والثاني في القفز العالي، والأول في القفز العريض، والأول في الموانع. وفي الأنشطة الثقافية كنت أصدر مجلة الحائط " التقدم " باللغة العربية، وأخرى باللغة الإنجليزية " Progress”." وكنت أكتب جميع مقالاتهما بنفسي.وفي الأنشطة الفنية،كان لي في كلّ معرض سنوي لوحة فنية و مجسّم " ففي مرة كان في وسائل الريّ، وفي أخرى كان عن عمليات إنتاج البترول.كما كنت أقوم برســم جميع وسائل الإيضــاح لجميع الصفوف من الابتــدائي إلى الثانوي "- سرد الذات ص259.
" سرد الذات" نص تسرد فيه الذات تكوينها الشخصي في خضم تاريخ جمعي تتحرّك في إطاره وتتشكّل حسب إيقاعه ونبضه؛ لذلك كان سرد مسيرة التكوّن الذاتي لونا من الرحلة التي تقود إلى رؤية الإنسان لذاته واكتشافه لها وبلورة ما تحمله من قدرات وطاقات.والمؤكد أنّ " سرد الذّات" صادرة عن رؤى متصالحة مع الذات ومع العالم ،فيما يخص العلاقات الإنسانية.فالشخصيات المشار إليها كثيرة جدّا، والحالات التي يتمّ رسم الشخصيات في إطارها متفاوتة ومختلفة، ولكن منظور السيرة إلى تلك الشخصيات يتّسم بالتوازن والقدرة على التّشخيص وإدراك أعماق الإنسان، دون تشويه له أو إساءة متعمّدة ،إذ عندما شرع الكاتب في النظر إلى مرآة ذاته، برزت له مجموعة من المرايا لذوات تنتمي لفئات مختلفة وتحمل تجارب،فيها الكثيرمن الاختلافات والتناقضات فعمل على توحيد تلك الذوات في " ذات " واحدة، تنمو وتتغيّر وهي ذات مدركة بقدرتها على تنظيم الواقع وما فيه من انشطارات ليغدو واقعا متماسكا ناميا وقابلا للتأويل.
في هذه المرحلة يتجلّى حبّ الشاب سلطان للفنون وشغفه المبكّر بالمسرح وممارسته له،تمثيلا وتأليفا،ويوثّق في "سرد الذّات" تاريخ نهاية 1963 م بظهور أوّل نص مسرحي ألّفه وأخرجه، وشارك في التمثيل فيه وهو" وكلاء صهيون " عندما كان طالبا بمدرسة دبي الثانوية وعندما كان يدير نادي الشّعب الثقافي الرياضي.وهذه المسرحية هي أوّل نص يعرض على الخشبة بالنادي، ويضمّن "سرد الذات" ما ورد في المسرحية في آخر فصل فيها حيث يظهر "موشي ديان " يخاطب وزارة الخارجية البريطانية.كما يكشف الحوار في هذه المسرحية اتّحاد العرب وعجز الإنجليز عن التدخل، وتتجلّى الجرأة في المسرحية في توجّه الممثّل "موشي ديان" للوكيل السّياسي وهوالدورالذي قام به كاتب "سرد الذات" " مايكل بيرنوم " يخاطبه صراحة وجها لوجه :" صنعتونا..وجعلتم منّا مخلب القط لمصالحكم..كنّا مستريحين في بلداننا...جمعتونا من كلّ بلد لتضعونا أداة من أدواتكم العدوانية "- سرد الذات ص 296 .
هذا الخطاب يكشف عن ثقافة الشاب سلطان ،رغم صغر سنّه، ووعيه بمصير الأمّة العربية،وفهمه لسياسة الاستعمار المبطنة وإيمانه برسالة الفنّ في الالتزام بخدمة القضايا الاجتماعية والإنسانية.
شاب تربّى من معين القيم الإسلامية، في فضاء أسرته وأدائه فريضة الحجّ ،وهو في السّادسة عشرة من عمره، والتحامه بكلّ ما له علاقة بالفرائض وتأديتها على أحسن وجه وهذا عامل قويّ في ترسيخ هذه المعاني السامية.
وما يؤكّده، هوعلاقته القويّة بالرياضة التي لم ينقطع عنها،إلا بإصابة في رجله،سرد: "في إحدى مباريات نادي الشّعب أصبت بشرخ في نهاية عظمة السّاق، ممّا اضطرّني للتوقّف عن اللّعب " - سرد الذات ص 291.
وتسجّل " سرد الذّات " إصرار الشاب سلطان على التحدي، فرغم ما يحدث من مشاكل محليّة كقضية اندلاع الشّغب بين الرياضيين خلال المباراة الرياضية، وذلك بتاريخ بداية 1955 م، في مباراة كرة القدم بين فريق دبي وفريق الشّارقة، بحدوث شجار بين اللاّعبين ،مما أوقف المباراة، فإنّه لا يستسلم بل يتّخذ مواقف إيجابية في ذلك متجاوزا العراقيل من أجل الإنجاز؛ ورغم ذلك واصل الاهتمام بمسائل التأسيس إذ يسجّل في " سرد الذات ":" بعد رجوعي من الكويت، سنة 1961 م، أسّست فلايق الاتفاق والذي استمر لمدّة سنتين، وكان معظم لاعبيه من الأجانب فألغيته وأسّست نادي الشّعب في بداية سنة 1963 م."
ومن هنا تتّضح جهود الكاتب وهوشاب من أجل ترسيخ عادات حضارية وثقافة هادفة واجتهاده من أجل الحلول الثابتة والناجعة للرقي بالمجتمع، سرد:" بقي نادي النجاح لمدة سنة بدون مأوى، فاستأجرت منزلا في حيّ شعبي ومارسنا نشاطنا فيه " - سرد الذات ص 329 .
هذا وإن الدكتور سلطان في " سرد الذّات "منذ شبابه ،محبّ للفنون عامّة والمسرح بشكل خاص، وقد قام بتمثيل الدّور الرئيسي في مسرحية " المروءة المقنعة " للشاعر الفلسطيني محمود غنيم، بدور "جابرعثرات الكرام" ؛والمهمّ أن مردود تذاكر المسرحية بلغ اثنين وثلاثين ألفا روبية ،وثّقها الكاتب مصرّحا أنّ أكثرها من تبرعات شيوخ الإمارات وأسخاها تبرع الشيخ راشد بن سعيد المكتوم حاكم دبي،وهذه الأموال كان الهدف من جمعها ،بناء فصول إضافية للمدرسة القاسمية. ومن هنا نستنتج تفكيرالشّاب سلطان ووعيه بقيمة المبادرات الطيبة والمشاريع التي تساعد على تطوير مجال التعليم، رغم الظروف الصعبة والإمكانات المحدودة، فهو يجد حلولا لتذليل العقبات.
كما تعكس " سرد الذّات " ملامح شخصية محبّة للعمل وللعلم والتطوّع، ما حدث في المخيّم الكشفي بالكويت، عند هبوب العاصفة، ومبادرة الكاتب وهو طالب للقيام بعمل تطوّعي مشرّف، لأقوى دليل على هذه الهمّة العالية في سبيل العطاء.
وتظهر شخصية الكاتب وهو يافع من خلال " سرد الذاّت " شخصية قنوعة، لا ترغب في الأمور الدنيوية،مثل الهدايا، واعتذاره عن التيس الذي أهداه له الشاب الفارسي الساكن ببلدة " هرمودا " عند زيارته لإيران إلا دليل على ذلك.
ويعكس كتاب " سرد الذّات " عطش كاتبها للمعرفة، منذ صغره، فهو يقبل على القراءة بشغف، بينما أنداده، يميلون للّعب، وقد كان يبذل جهده من أجل الحصول على الكتب، ويدّخر مصروفه من أجلها، وها هو يوضّح لصاحب مكتبة " المؤيد " بالبحرين ، حبّه للكتب راويا:" كنت أجمع المصروف الذي يعطى لي من قطع نقدية معدنية، وأحوّلها إلى أوراق نقدية، وأضعها في الرسالة وأرسلها لك لشراء الكتب " - سرد الذات ص 159.
" سرد الذّات " مرآة ناصعة تعكس شغف صاحبها بالعلم والمعرفة بلا حدود، وكيف يغتنم الفرص للنهل من منابعها ، وزيارته لمكتبة المؤيّد بالبحرين، ولمكتبة بوشناق بمكّة، وتفوّقه في الدراسة منذ انخراطه بالمدرسة القاسمية حتى الثاني ثانوي،يؤكد هذا .كما أنّ هناك ثنائية لا حياد عنها هي ارتباط العلم بالإيمان، ثنائية واضحة تغني شخصية الكاتب وتساهم في رسم ملامحها وتؤكّد تديّنه السّليم ،ومن هنا تتجلى مرآة الذات المشرقة والغنية بالخصال والعاكسة للمعاني النبيلة وللقيم الإنسانية ،صورة جلية، صافية محدثة لدى المتلقي هالة من التقدير و الإعجاب .

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق