الأحد، 11 أكتوبر 2020

أبو القاسم الشابّي بقلم الأديب عادل نايف البعيني

أبو القاسم الشابّي
شاعر تونسي عملاق . ولد بالشابية ( تونس ) في 24 فبراير عام 1909 وتوفي بتونس في 9 أكتوبر عام 1934 . أبو القاسم الشابي شاعر الحياة والخلود شاعر الفجر المتوهج والبعث الجديد . سما بشعره إلى عالم من النور مشرق جميل فيه الخير وفيه الحب وفيه الجمال .. عبر به عن القلق والحرمان اللذين عاشا معه وقاسماه الحياة .. عبر عن المطالب السامية للنفس الإنسانية . رحل دون أن يتخطى سن الخامسة والعشرين مما جعل الكثيرين يمثلونه بالنيزك أو الشهاب الذي مرق في سماء تونس كالحلم مخلفاً وراءه أخدوداً وهاجاً من الأثر الساطع والألق الفائق . احترق في عز الشباب وفي عمر تفجر المواهب .. صور مآسي شعبه وأماله وأحلامه وطموحاته في أروع أنشودة وطنية .
إذا الشعب يوماً أراد الحياة
فلا بد أن يستجيب القدر
ولا بد للـيل أن ينجـلي
ولابد للقـيد أن ينكسـر
تخطى الشابي بشعره قيود الثقافة وحدود السن وأرسلها إشعاعات قوية الوهج قوية اللمعان ثم مضى .. تلقى تعليمه الأولى في الكتاتيب القرآنية كما تلقى عن أبيه أصول اللغة العربية ومبادئ العلوم وفي عام 1921 توجه إلى تونس العاصمة حيث التحق بالكلية الزيتونية ليتخرج منها عام 1927 ومن هناك إلى كلية الحقوق . وخاض الشابي معارك الشباب في هذه المرحلة لإصلاح مناهج التعليم وساعد في تأسيس جمعية الشبان المسلمين والنادي الأدبي في تونس . وفي عام 1929 توفي والده ليثير ذلك صدمة عنيفة في نفسية الشابي قلبت حياته وقصائده إلى يأس وألم جارفين إلى أن اغتاله الموت شاباً بدائي القلب والصدر وهو على أعتاب عامه الخامس والعشرين . كان من الشعراء الذين تغنوا بالمستقبل وآمنوا بالتجديد ورفضوا الجمود والتقليد وسكبوا ذاتهم في واقعهم الاجتماعي فهو يتغنى بالحياة والفن والوطن والطبيعة والثورة وتزخر قصائده " صلوات في هيكل الحب " ونشيد الجبار" و" أغاني الرعاة " و " تحت الغصون " وغيرها من القصائد بنزعة تأملية تجعله يعود مراراً إلى نفسه ومعنى ذلك أنا لشابي حينما بعود إلى نفسه لابد وأن يتأمل واقعه الاجتماعي وقد تستبد به حالات اليأس والغربة غير انه سرعان ما يعود إلى هذا الواقع من خلال تجاربه الذاتية وتبعاً لذلك تكون رومانسيته داعية إلى التغيير . يقول الشابي في قصيدة " نشيد الأمس "
ما للحياة نقية حولي وينبوعي مشوب ؟
ما للصباح يعود للدنيا وصبحي لا يؤوب ؟
مالي يضيق لأوجاع الكآبة والكآبة لا تجيب ؟
إني أنا الروح الذي سيظل في الدنيا غريب
موضوع الموت إذاً من الموضوعات التي شغلت الشابي نظراً لأنه كان يهدده باستمرار بل عصف به وهو في بداية الخامسة والعشرين من عمره وأحياناً عندما يشتد اليأس يضيق الشابي بعمق الألم ويرى الموت قاب قوسين أو أدنى ينطلق بصرخاته تحدياً للموت ومقاومة لهذا الوجود يقول في قصيدة " نشيد الجبار "
سأعيش رغم الداء والأعداء
كالنسر فوق القمة الشماء
( آمن بأنّ لقادة الفكر رسالة إنسانية، وبذل جهدا لكي يحققها في حياته القصيرة)
منذ خمسة وسبعين عاما لمع وسطع كالشهاب، ومضى عن خمسة وعشرين عاما إلاّ أنه لا يزال يشع بضوئه، من خلال شعره الذي قال عنه "أبو القاسم محمد كرّو " جامع شعره وآثاره النثرية:
"ما يزال يرن اليوم في جميع أنحاء العالم العربي، وشعرُه أغنيةٌ عذبة على كل لسان، ونشيدٌ يتدفق من كل حنجرة، وطرب مؤنس في شفاه عدد غير قليل من المطربين والمطربات".
كان الشاعر الشابّي رائدًا من روّاد الرومانسية، ويمثّل شعره بصدقٍ كل خصائصها خير تمثيل. ففيه الحب والبغض، والإقبال على الحياة و النفور منها، فيه الحنين إلى عالم مثاليٍّ مليء بالفضائل، عامر بالحب، خالٍ من الأحزان والآلام:
خلقتَ طليقًا كطيف النسيم وحرّا كنور الضحى في سماه
فما لك؟ ترضى بذلِّ القيود وتُحنِي لِمن كبّـلوك الجباه
ألا انهضْ وسرْ في سبيل الحياة فمن نـام لن تنتظرْه الحياه
إلى النور فالنور عـذب جميل إلى النّـور فالنور ظلُّ الإله
لم يمضِ وقت طويل حتى أصبح الشاعر وشعره الشابّي حديث الناس بعد نشر قصيدته ( صلوات في هيكل الحب) في كل قطر عربي، حيث العذوبة والصفاء، والطرب والنشوة، وحيث القوة والتأثير:
عذبة أنت كالطفـولة كالأحـ.....ـلام كاللحن، كالصباح الجديد
كالسّماء الضحوك، كالليلة القـ..... مراء كالورد كابْـتسام الوليـد
أتقن أبو القاسم الشعر وذاب إحساسه الشعري فيه، عالم شعوري مفعم بالغربة والتوحد وتساؤلات كبرى عن سر الحياة والوجود، مع اندماج كلّي بعناصر الطبيعة من حفيف ورود، وأنغام من ليل وضياء، وصباح وغروب، بينما لا يخلو ذلك من مسحة الحزن ومرارة الغربة.
وإذا كان المتنبي الشاعر العباسي الذي ملأ الدنيا وشغل الناس، قد أشار للغربة في شعره فلغرضين، أولاهما: استدرار عطف الممدوح، وتحريضه على المنح:
بيـدي أيّـها الأميـر الأريب لا لشيءٍ إلاّ لأنّـي غـريب
وثانيهما : غطرسة المتنبي وغروره إذ قرن نفسه في غربته بالأنبياء حين قال:
أنـا من أمّـة تداركها اللـ......ـهُ غريبٍ كصالحٍ فـي ثَـمود
بينما غربة أبي القاسم الشابّي تختلف اختلافا جذريا عن غربة المتنبي، فهي غربة الواقع المؤلم، غربة النفس التوّاقة للانطلاق للحياة:
يا صميم الحياة كم أنا في الدنـ.....يا غريـب أشقى بغربة نفـسي
بين قومٍ لا يفهمـون أناشـيـ.....دَ فـؤادي ولا معـاني بؤسـي
أبو القاسم الشاب الذي آمن بالشعب، وقدراته على تخطي الصعاب واقتحام الخطر، وآمن بأن طريق الحرية يَمر عبر كسر قيود الذل، والانطلاق إلى عالم المحبة، هذا الشاعر جعل من شعره شعلة تضيء الطريق للأجيال، ولا يخفى على أحد أثر شعره في إذكاء الروح الوطنية والثورية في بلاد المغرب كافة.
إذا الشعب يوما أراد الحيـاة فلا بدّ أن يستجيـب القدر
ولا بـدّ للـيل أن ينجـلي و لا بـدّ للقيد أن ينكـسر
وهو الشاعر الذي كان يعاني من المرض الشديد، والذي كان يرى الموت في كلّ خطوة من خطواته، لا يتوانى عن التفاؤل والنظر للحياة، نظرة حبٍّ وانطلاق، فقد كان يراها تّمر عبر خفقات قلبه المريض، فقلبه فضاء يستطيع أن يشق فيه العالم في اتجاهين:
اتجاه أفقي رحب يتناسب واتساعه وشموليته:
كلّ ما هـبّ وما دبّ، وما نامَ أو حام على هذا الوجود
من طيـور وزهورٍ وشـذى وينابيـع وأغصان تَميـد
كلّـها تحيا بقلبـي حـرّةً غضّةَ السحر كأطفال الوجود
والفضاء الثاني: اتجاه عامودي ينمّ عن عمـق التجربة، وبعد الرؤية التي تستكشف العالم، حيث تنزل اللغة بكل ثقلها:
ها هنا في قلبـي الرحب العميق يرقص الموت وأطياف الوجود
ها هنا تعصف أهـوال الدّجى ها هنا تخفق أحـلام الورود
ها هنـا الفجر الذي لا ينتهي ها هنا الليـل الذي لا يـبيد
ها هنـا في كلّ آنس تـمّحي صورة الدّنيا وتبدو من جديد
ذلك هو أبو القاسم محمد الملقب بـ ( الشابّي) نسبة إلى بلدته التونسية ( الشابية ) التي تقع في ضواحي تورز بتونس. الشاب المتأثر بالاتجاهات التجديدية في شعرنا المعاصر، وصاحب ديوان " الأغاني "المشهور، ذو القامة المديدة، والجسم النحيل، صاحب الحس المرهف، والبديهة الحاضرة، ذلك الشاعر الذي جمع إلى جانب كل ذلك الرقة وعذوبة العاطفة. وبالرغم من شعوره بالموت القادم تراه دائم البشاشة، كريما طروبا لمجالس الأدب، محبّا لوطنه مؤمنا بأنّ لقادة الفكر رسالة إنسانية، ووطنية، حاول جهده أن يحققها في مدى عمره القصير، الذي لَم يتجاوز أربعةً وعشرين ربيعًا.
وبالرغم من كل هذا التفاؤل والحب، لم يخلُ شعره من مسحة حزنٍ ورفضٍ لواقع لم يلق فيه سوى الشقاء ، والأماني الغرقى بالدموع، وأناشيد يأكلها اللهب وورود تُميتها الأشواك، فيتمنى لو أنه لم يفد لهذه الحياة، وظل كما كان ضوءا شائعا في الوجود:
لَم أجد في الوجـود إلاّ شقاء سـمرديًّا ولـذّة مضمـحلّه
وأمانـيَ يغرقُ الدّمـعُ أحلا ها ويفنَى يـم الزمان صداها
وأناشيد يأكـل اللهب الدا مي مسراتـها، ويُـبقي أساها
وورود تموتُ في قبضة الأشـ واكِ ما هـذه الحياة المُمـلّة
ليتني لَم يعانـق الفجر أحلا مي ولَم يلثمِ الضيـاء جفونـي
ليتني لَم أزل،كما كنت، ضو ءًا شائعا في الوجود غير سجين
هذا غيض من فيض مما عمرت به سيرة أبي القاسم الشابي، أوردت فيه بعض جوانب من شخصيته الشعرية والشخصية، أتراني أوفيت؟ فإن لا . فرجائي أن يتابع أحدكم تسليط الضوء على هذا الرجل الذي نحوج إليه وإلى أمثاله في هذا الوقت العصيب من وجودنا العربي والإنساني والتراثي المهدد.

مجلة الكفاح العربي - بيروت
عادل نايف البعيني

L’image contient peut-être : une personne ou plus et texte
 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق