الأحد، 23 مايو 2021

بورتري/هدى كريد /مؤسسة الوجدان الثقافية


 بورتري

هدى كريد

شاعرة تكتب بحجم الغضب في أعيننا
أسماء المصلوحي
1 - سؤال الجواب لعبتها الأثيرة:
أعدتني بسمتك
أغراني وجهك
بمعسول الرؤى
جهدت أن أكون أنا
احبّ إغفاءة الموسيقي
فوق عينيك
كلّ الالوان الهاربة منك
حطّت على قلبي
زغاريد تصدح
داخل أوردتي.
مثل فراشة تائهة بين حقول الكلام، تأتينا هدى وهي ترفرف بالانزياح، كأنها مصرة على إدهاش دهشتنا، ووضعنا أمام تحليقها المنسوم بورد المجاز.
فكيف يمكن اللحاق بها وهي فوق سحاب الرمز تطل علينا من عل، ونراها بعيون تبرق بها ؟!
بالسؤال وحده يمكننا أندرك سر تحليقها في لغة بها تعلو حد إعجابنا. أنا جربت ذلك، غير أنها، هدى كريد، تلمح في السؤال أشلاء الجواب. لا لأنها مجنونة بالاستفهام بل لأنها مدمنة على المقامرة بالتعجب.
جهدت ان أكون أنا
ألملم تفاصيل البياض والسّواد
على محمل لوحة الأبديّة
غمرني شلّال الأنوار
أغرقني البهاء
تناثرت فوضاي
من غياهب المنسيّ
لايمكن لفرحة أن تعاد مرتين
لايمكن لكلمة
أن تحدث دهشة واحدة.
أرأيتم مهارة تحويل منسوب الكلام من مصب الروح إلى مجرى أرواحنا ؟!
إنها هدى...
هدى التي نحبها عبر القراءة، لأنها تعشقنا عبر الكتابة.
2 - ارتباك القلب أمام ارتعاش الحب:
كم أربكتني دقة المسافات
لا أحبّ أمانا
أحبّ أعمارا داخل العمر
وأوطانا
ماء وزهرا وغيما
وشاهقات دون سفوح
وسماء تغاضب أرضا
أحبّ كل ما لا يسعه وطن.
هنا أنت وأنت علينا أن نكون بحجم وطن حتى ندرك جيدا كيف تنقلب القصيدة إلى وطن، ويتحول الوطن إلى قلب ضاج بالشعر.
هدى جياشة تملك مفاتيح هذا الانقلاب بحيث تأخذنا نحو الخراب كي نعيد إعمار أعيننا التي تراه. وهي إزاء ارتباكنا تتفرج علينا وتقهقه ملء شعرها !
حتّى لا يغيّض رمل حلما
واحدا يرتعش من الظل
تلك المنارات ما أحلاها
لولا أشباح المنافي
وجماجم المقهورين
لو أصمّ عن كلّ وجع
لو أذهل عن كلّ شيء إلّاك
أطيافك الهاربة
بخور الليلة المقمرة
أكابيلا ينشدها الحالمون.
أيمكن قراءة هذا الشجن من دفق الدواخل دونما ولوج معنى المعنى، ذاك المخبوء تحت طيات الظاهر والغائص في مدارج الباطن ؟!
سؤال آخر لا أخالها تجيب عنه بغير سؤال آخر ينتمي إلى سهول ظلها الوارف.
3 - في مدائن كناياتها بقيت أنا:
العراء ضوء باهر
لايتحجّب
لا يخجل من وضح
لكنّ المرآة صدئة
والقمر المعنّى بعيد
ينشر غلالته فوق سخام أحزانه
ظمأى أنا إلى الرّواء
والديم شحّت
في قحط السنين.
أذهب إنلى لغة نصها فلا أبقى منفردة بوحدتي. وحين أغادرها تبقى في ثياب قراءتي. وإذا حللتب كل هذه المدائن من الاستعارات والكنايات والتوريات، لا أعثر على ذاتي إلا في ذوات لغتها.
أهي تكتب بالهواء أم باللغة ؟ ثم... لماذا تأخذ من اللغة جماع مائها كي تسقي حقول عطشنا ؟ وكيف تمشي متئدة المعاني في أحراش المجازات ؟
ياثغر الوليد
هبني قبلة ندى
شهية مضمّخة بعطر الخزامى
أخشي التيه في ضلوع الشيب
يا قلبا لا تلاعب حزامك الناسف
ذرني وإياك في سويدائك
أعابث جدائل السّماء
وألوّن الطّحالب والقتاد.
أسير.. وأسير.. ولا يلوح لي ضوء في الفلاة إلا حين أندلع في صحراء سطورها، هي التي تقرأ كل أحلامنا وتشهرها على مرأى من كل الذوات.
4 - هذا طوفان الرمز وذاك وعيها الذكي:
ياعطر الوليد عمّدني ببراءة وجنون
حتّى لا تجتمع الأحقاد في سقيفتها
وتقطع نائلة أصابعي
ويراقص قميص عثمان دمي
انا ظلّ ما مضى وبهتان آت
ملحمة حرف انتحر بجرعة أمل
وما اكتمل..
كي تكتب رمزا يسكنك أنت لا تحتاج إلى قراءة أمهات كتب الخيبة العربية. فقط عليك أن تستعير من الشاعرة هدى كريد وعيها الذكي كي ترى بعينيك طوفان الرمز وهو يجرف كل دلالات الوعي الشقي.
هذه شاعرة تنهل من تاريخ ساطع الخذلان. لذلك تأتيه وهي محملة بالأسى وبالخيبة وبالوجع. أما المتن فذاك حديثه ذو سجون، أقصد ذو شجون !!
شيخ خرف
على عكّاز الألم
يبكي، يبكي دما
ذاهل عن كلّ التّفاصيل
إلّا نارا تستعر
شيخ وهن
تأكله الذكرى
لم ينس فوهة البندقيّة
على رأس حفيده اليتيم
لم ينس القدم الكبيرة تهرس
الجسد الصّغير
يرتعش الجنديّ الأحمر
والفزع اللقيط
يحتار على أيّ وجه يحطّ
يبتسم بوثوق عرف الوجهة حتما.
هنا لا تملك إلا أن تذهب نحو شفرتها وأنت مدججة بكل ما يلزم من دمع كي تنتحب كلماتك وهي في مهب عمر يحال على غياب قسري !
5 - ثمل الخطو في الرقصة الأخيرة:
للعهر ذاكرة
وللفزع في وجوه الآثمين أوكار
وللشمم في المآذن والصلوات مراتع وأصداء
ترددها حكمة العجائز
ثقوب الذاكرة لا تنزع منها الأوشام.
يالله كم يصبح الكلام مثل مشانق تنتظر رؤوسا كي تينع جرائمها في حقول عرب أدمنوا الخيبات !!
فيا هدى: من أين تحديدا يأتيك كل هذا الشجن الذي يبكي فينا الكلام على الكلام !؟؟
تأملوا معي كيف يتحول الخاص إلى عام، وينقلب المحسوس إلى مجرد، وتصبح للكلمة العادية قوة ضغط على زناد ثورية المعنى...
تأملوا معي:
أيّها الرّاقصون
تعب الحبل
داخ في رعونة الخطوات
تمدّد الرّصيف يوّثق مسافاته
المدى شرّيد
متى الرّقصة الأخيرة؟
لا رقص بقي لنا في ظل لغة تقول ما ليس نحن عليه داخل أوطان تتنكر حتى لحضور غيابنا !
بيد أن رقصة شاعرتنا التونسية المأنوسة بوجع الانتماء هي التي تبقى في حلبة الذاكرة، يوم يموت النسيان على أعتاب وطن بحجم اللكمة !
6 - وداع بصيغة لقاء سيأتي:
اشتاق الكفن إلى ملمس طريُ
يغرس فيه أنياب الشّوق
هناك القمر يراصف الأجداث
يلعن نبوءة الشياطين.
على إيقاع هذا الموت الذي تحييه شاعرة ماهرة في تكفين القبح، أودعكم أنا وحبري.
لكن...
هل أنا قادرة على ترك هدى كريد حتى وهي تاركة إياي في منعرجات الشعر المأهول بالاستثناء ؟!
سؤال ثالث...
أعتقد أنها - هذه المرة - ستجيب عنه بجواب بحجم روعتها، وليس بسؤال آخر بوسع مكرها.
أليس كذلك يا هدى ؟!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق