الاثنين، 2 نوفمبر 2020

قراءة تأملية في قصة-حفنة جمر-للقاصة والشاعرة التونسية المتميزة منجية حاجي بقلم الناقد والكاتب الصحفي محمد المحسن

  قراءة تأملية في قصة-حفنة جمر-للقاصة والشاعرة التونسية المتميزة منجية حاجي

  1. "لماذا نكتب … لكي لا نهلك."( دوسارتو)


إذا كان الأدب انعكاسا للواقع على الإحساس،فإننا بدخولنا عوالم المبدعة "القيروانية" منجية حاجي نطل على فضاءات تكون مسرحا لإتجاهات قرائية يكونها فضاء اللغة والشخوص والرؤى والحدث وفضاء السّرد.
النصوص القصصية-لمنجية حاجي- تلتمس تعدديتها بإختلاف القراءات وتنوعها،فتظهر مستويات كتابية جديدة،تضفي على النصوص آفاقا تأويليّة حسب استعداد الملتقي ومرجعيّته، غير ناسين حقيقة أنّ النصوص تحتوي على دوال تساعد على تفكيك النّص واستنطاقه يمكّن للقراءة الواعية استحضار ما خلف النص من إحالات،وإستثارة مرجعيات تثري النصوص وتحفّز المتلقي…
تواصل المبدعة السامقة منجية حاجي في لوحتها القصصية(حفنة جمر) تلك الرحلة السّردية الشيقة التي قدّمتها في قصصها السابقة،أو بالأحرى تواصل بعدا سرديا من أبعاد هذه الرحلة وهو هذا البعد الذي يمزج الذاكرة بالتاريخ،ويستقطر من أبعاد هذا المزيج نوعا من السّرد الشعري الشفيف الذي تتميز به كتابتها القصصية،فقد إستطاعت منجية حاجي أن تبلور لنفسها أسلوبا سرديا له خصائصه الشعرية ومذاقه السردي الخاص في الوقت نفسه،لأنّ شعر -منجية-السردي لا ينبع من معضلات اللغة،ولا من الجري وراء المفردات القاموسية،ولا حتى من الولع بالإستعارات والصور الشعرية،كما يحاول غيرها من الكتاب،وإنما من الحساسية الرهيفة للتفاصيل الواقعية البسيطة والقدرة على استنطاقها بأقصى ما في طاقتها على البوح والتغيير فتبدو التفاصيل الواقعيّة عندها للوهلة الأولى وكأنها تقول الكثير وكأنها تفاصيل بالغة البساطة لا تخفي شيئا،ولكنك ما إن تتأمّلها قليلا حتى تجد أنّها في حقيقة الأمر التقطير المصفّى لعالم ثري من الرؤى والدلالات…
تمظهرات اللغة الإيحائية في المتن السردي :
تعتمد القاصة لغة ذات طبيعة إيحائية ورمزيّة تعتمد المجاز مثل قول السّاردة:"يا شمسي المشرقة التي تعكس اشعتها داخل اوصالي،أحببتك جدا فلا تعشقيني،فأنا طيف يظهر أوقاتا،ويتوارى أخرى،أحمل على كتفي نعشي،تفوح رائحة الموت بأنفاسي،الصراع قائم بين الحياة والموت.."
و يتأكّد لدينا ذلك من خلال حضور معاجم للغة التشبيه والإستعارة كلغات ذاتية تتيح التوغّل (والإيغال) في الذات وإختراق عوالم الباطن،ويتحقق ذلك من خلال الصوغ الذاتي للغة Le subjectivation وهي تسترفد من شحنة الذاتيّة،وهذا ما تتميز به بعض المقاطع في القصة تجعلها قريبة من لغة التأملات والخواطر والإيحاء الشعري مثل:"تعانق حفنة من تراب ترسم ملامحه الرّائعه،تنثر ترانيم أغاني بأهدابها الفاتره،الحب هو الهزيمة والإنتصار،بل الموت والحياة أو كظلمة الأسى والتبدّد.."
نجد أنفسنا من خلال هذه المقاطع إزاء لغة تحمل هواجس الذات وتنزاح نحو بنية لغة الشعر من خلال اقتصاد لفظي يضمن للخطاب القصصي شروط ودافعية الإنتقال نحو لغة تجعل من الحلم والإستيهام مرجعية أساسية في استبطان أغوار الذات السحيقة..إنّه من شأن المقوّمات أن تكشف لنا عن حضور صوت المؤلّف(ة) كملفوظ لغوي وأدبي يحتفظ بإستقلاليته داخل الخطاب القصصي.
و يمكن أن تثار على ضوء هذه الإستقلاليّة إشكالية العلاقات النصية التلفظيّة التي تتأسس على ثنائيات:المؤلف(ة) السارد(ة)،المؤلف(ة)/الشخصيّة،السارد(ة)/الشخصية وذلك من حيث كونها لا تعرف استقرارا ثابتا ونمطيا داخل نص “حفنة جمر” في ظل تنوع ملفوظه القصصي بين أصوات ولغات مختلفة إلى الحد الذي نتساءل فيه “من المتكّلم داخل النص (الملفوظ) ؟ “
فالمتلفظ في النص أحيانا هو السارد(ة) العليم(ة) وكأنّه راوي الرواة،أحيانا يتلببس صوت البطل الشخصية وكأنّه على دراية كاملة بالأحداث تسمح له بالتحكم فيها.فيأتي صوته أحيانا منصهرا مع صوت السارد(ة) الشيء الذي يعطي لحضور الزّمن الماضي الغالب على الافعال الحكائية الموظّفة تبريره النصي.وهكذا تحضر عبر هذا المكوّن لغة الذات المتكلمة تأتي لإدراج ملفوظاتها التثمينيّة هادفة إلى تحفيز ذهن القارىء واجتذابه لعوالمها القصصية وفضاءاتها التخييلية ولو عبر خطاب مونولوجي داخلي مباشر،يطلق فيه المتكلّم(ة) العنان لخياله وإحساساته كي تتداعى.
تقنيات السرد و الوصف في المتن القصصي:
عمدت -منجية حاجي-في نسج أحداث متن القصة إلى طريقتين:طريقة السرد الكلاسيكي التي تأتي على لسان الراوي(ة) المتحكّم(ة) في تحريك مسارات الشخصيات و توجيهها (الراوي يعرف أكثر من الشخصيات) وهي تقنية لم تلتجئ إليها السارد ة إلا في حالات نادرة.وطريقة السرد الحديثة التي تتخفى فيها الراوية و تترك الشخصيات تتحرك وفق حريتها،فترسم مساراتها و تبوح عن مواقفها،أو تبتكر حوارات مع غيرها،إلى أن تصل إلى نهايتها الموضوعية تبعا لحمولتها الفكرية والنفسية والاديولوجية (الراوي لا يعرف الأعماق الداخلية للشخصيّات).وينطبق هذا التوجه في السرد على أكثر شخصيات هذه القصة،وبخاصة شخصيّة "الرجل العاشق"التي ظهرت كشخصية حرّة تلقائيّة،تعبّر عمّا يعتمل في وجدانها دون “رقابة“ من الراوي أو المؤلف،وقد ظهرت براعة القاصّة في هذا التقنية واضحة،فبدت شخصية بطل القصة بعيدة عن كلّ وصاية، في تمثل نوازعها الفردية وطموحاتها الشخصية وعلاقتها بالآخر،أو كما يقول جورج لوكاتش (الفنان هو الذي يبدع أوضاعا ووسائل تعبير يمكن بواسطتها أن يظهر حيّا كيف تشق هذه النوازع الفرديّة أطر العالم الفردي المحض.. وهنا يكمن سرّ نهوض الشخصية الفرديّة إلى مستوى النموذجي)(1).
ويلاحظ أنّ السّرد يحتلّ مساحة كبيرة من نسيج القصة على حساب الوصف،نظرا لما تتميز به القصة من سمة استرجاعية،وتكثيف للأحداث،فيتلاحق السّرد في جمل فعليّة لا تكاد تترك للوصف أو الحوار حيزا وتعمل هذه التقنية على تأكيد المواقف والرؤى ومحاولة تبريرها فنيا.
ومن هذه الرؤية السردية لا تكاد تلتجئ -منجية حاجي-إلى تقنية الحوار إلاّ في مواقف محدودة،حين يتأزم السرد لتقريب وجهات نظرالشخصيتين وعلاقاتهما المتصارعة..كما تستعين الساردة بالحوار المقتضب أيضا في بعض الحالات لإظهار التناغم العاطفي والوجداني..
أمّا الوصف،فلا مناص من أهميته في أي نص سردي،إذ يظل تقنية ضرورية لتجسيد المواقف، وتقريب ملامح الشخصيات وتحليل نفسياتها وتشيء الدلالات،في علاقة تواصلية بين الأشياء والطبيعة والنفس البشرية.
ويبدو أنّ منجية حاجي في هذه القصة القصيرة،حاولت أن توفّق بين السرد والوصف،فتضفي أوصافا على كائنات للطبيعة ( السماء اكتمال...يا شمسي المشرقة..يمر النسيم شفيفا...)
وسرعان ما تنسحب إلى كائنات بشرية،وقد تأتي هذه الأوصاف في شكل تشبيهات واستعارات،تجسد عملية السرد،وتخدم مواقف السارد وتبرز الرؤيا التي تريد أن تثبتها أو تبثها في أفق انتظار المتلقي.
ومهما يكن،فإنّ الوصف في قصة-حفنة جمر-لا يتخذ مقاطع منفصلة بل يتداخل مع السرد، فالساردة وهي تصف،نراها فجأة تستنجد بالسرد لتطوير الحدث وما تكاد تنتهي من الصورة حتى تزاوج بين السّرد والوصف أوتهرع إلى الحوار والمفاجأة وتكاد تنطبق المقولة الشهيرة للناقد الفرنسي نيكولا بوالو NicolasBoileau (إنّنا نطنب إذا سردنا ونوجز إذا وصفنا) على تقنيات السرد في قصة-حفنة جمر-..
وعلى ما تميّزت به هذه -اللوحة القصصية الرائعة-من تقنيات حديثة وأساليب فنية راقية في تشكيل المتن السردي مما يلحق صاحبتها بقائمة نخبة الأقلام،من كتّاب القصة التونسية المعاصرة- تبقى أقرب إلى السيرة الذاتية،والإسترجاع التاريخي،منها إلى -الرواية الفنية- التي تجسد البعد الإنساني في مقوماته الحضاريّة والنفسية والإجتماعية،وترسم عواطف البشر وآمالهم المشتركة في خضم الواقع وأطياف الصراع الوجودي..("فأنا طيف يظهر أوقاتا ويتوارى أخرى،أحمل على كتفي نعشي..تفوح رائحة الموت بأنفاسي..الصراع قائم بين الحياة والموت..)
ومهما يكن من أمر هذا العمل،فإنّ الكاتبة قد توسّلت في الخطاب السردي بتقنيات خلقت تقاليد قصصية واعدة تمتاز بتكثيف الدال واللجوء إلى التكرار وتهشيم الزّمن وتقطيع السرد والإتكاء على معجم حسي يطمح إلى احتواء غليان الداخل وتأججه..
ولنا عودة إلى-هذه القصة القصيرة المذهلة- عبر مقاربة مستفيضة

محمد المحسن
1- جورج لوكاتش ، دراسات في الواقعية ، ترجمة نايف بلوز،وزارة الثقافة،دمشق 1970 ص 27.
L’image contient peut-être : 2 personnes, personnes assises
L’image contient peut-être : 1 personne, gros plan

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق