عالجني المسرح , بقلم ناريمان همامي
ما أجمل الطفولة و ما أحلى ألوانها ! براءة و قهقهات عالية خالية من منغصات ! هكذا هي الطفولة الطبعية التي يجب على كل طفل أن يعيشها , فترة البراءة و الأحلام الجميلة , لكن ما أعيشه مختلف كليا عن ما زعموا و عن ما كنت أظن .
إسمي" ليث" أبلغ من العمر ست سنوات و إن وصفتهن فسأقول ستة سنوات لا إخضرار يكسوها فقط خريف عصف بي , أنا في جسد طفل و لكن عقلي كجهاز حاسوب عمليا و كعقل عجوز ناهز التسعين منطقيا , أعاني من الخوف و التردد و الخجل المفرط و هذا ما جعلني محل سخرية و تنمر من كل من حولي و حتى من عائلتي و هذا ما أدى بي إلى الإنزواء و الوحدة و الإختفاء و الهرب , لم أستوعب نظرات الجميع من سخرية و شفقة و كم صرت أمقت كلمة " مسكين , كم هو ضعيف شخصية , كيف سيكون في المستقبل بشخصيته هذه ؟ في خضم معاناتي هذه و رغم صغري سني كنت أختبأ في مكان قصي بعيدا عن عيون المتنمرين و أجلس تحت شجرة أتخيل حوارا بيني و بين شخص لا أحد يراه سواي فقط أكتفي بتغيير صوتي كي أجيب نفسي .
ذات مرة إثر نهاية الحصة الثانية , طلب من معلم الرياضيات حل مسألة رياضية و كنت أعرف الإجابة لكن خوفي و حساسيتي من همسات أصدقائي قد أشعراني بالتردد و أخطت الجواب فصب عليّ معلمي وابل من الكلمات الجارحة و كانت كلمة " فاشل" من رسخت بقلبي و طبعت على جدران روحي و لم تنمحي من ذاكرتي و راح صداها يتردد في أذني , خرجت الى الفسحة و كان بقية الأطفال يتهامسون و يضحكون, فرُحت إلى شجرة و جلست أمارس هوايتي و كانت هذه الشجرة حذو شباك مكتب معلمة أحبها لأنها كانت لطيفة معي كإسمها " لطيفة" , شرعت كعادتي أغير صوتي و أتحدث حتى تناسيت قرب الشجرة عن نافذة المكتب و علت وتيرة صوتي و غفلت عن معلمتي التي كانت تتابع سرد حكايتي و تشاهد مسرحيتي , إنتهيت و قد شعرت براحة نسبية و طاقة تجعلني أكمل ما بقي لي من حصص .
من الغد , رأيت مجموعة من الأطفال متحلقين حول الجزء المخصص بالإعلام في مدرستنا فإقتربت ببطء حتى أتجنب سخريتهم المعهودة فور لمحهم لي و قد فهمت من همهماتهم أنه سيتم إفتتاح نادي المسرح بمدرستنا و من يرغب بالتسجيل يلتحق بمكتب الأنسة " لطيفة", أسرعت بإتجاه المكتب فوجدت فئة قليلة من الأطفال يقومون يتسجيل أسماءهم و لاحظت إنفراج أسارير معلمتي حينما لمحتني و قد بادرتني قائلة :" كنت بإنتظارك يا بطل." . فرحت و إبتهجت فهناك من يهتم لأمري اقتربت منها و قد كسا اللون الوردي وجهي من الخجل و طأطأت رأسي لكن يد معلمتي أسرعت برفعه عاليا قائلة :" لا يوجد سبب يجعلك تطأطأ رأسك , أعدك بأن تكون نجم هذه المدرسة و مثالا يحتذى به." لم أفهم قولها و لكن شعرت بطاقة نشاط على غير المعتاد .
حددت الإدارة أوقات إنطلاق نشاط المسرح فكنت فرحا و متحمسا و بالرغم من تطور الهمهمات و صارت كلمات مسموعة و لكن تغافلت و تجاهلتها و ركزت على كلمات معلمتي اللطيفة ,
إجتمع الفريق الذي راقه النادي و كنا عشرة أطفال فقط تعارفنا و رغم رفضهم الخفي الظاهر لي إلا أني لم أعرهم بالا و صببت جل تركيزي على نشاطي . تواترت حصص نادي و تنوعت فقراته, فلم يكن المسرح فقط مكان للعب فقط بل كان متنفسا قد كان بالنسبة لي بحرا شاسعا بالعلم فقد إكتشفت ذاتي و تغلبت عن ترددي و مخاوفي و غيرت نظرتي لمن حولي و عرفت أن ليس كل من يكرهنا لعيب فينا بل يكون كرهه نابعا لميزة تميزنا عنه , إكتسبت مهارات جديدة و طورت من مهارتي في تغيير الأصوات و التحول من طبقة إلى أخرى خفت حدة توتري و ترددي و زادت ثقتي في نفسي و تعالى سقف أحلامي و إكتشفت ذاتي و علمت مواهبي المدفونة ففي كل مرة أقوم بدور في مسرحية ما أتعلم من تلك الشخصية و أكتسب مميزاتها و أعتبر من أخطائها حتى علاقتي مع عائلتي و أقراني و معلميّ قد تطورت و تحسنت كأعدادي ,
شارفت السنة الدراسية على الإنتهاء و طلبت من معلمتنا إعداد مسرحية ذات رسالة إجتماعية تجعلنا ننقد واقعنا بلمسة طفولية بريئة شرط أن تكون ذات مفعول قوي في النفوس و بعد التشاور تطرقنا إلى العمل على مسرحية بعنوان" إهمالك يا أبي يدمرني", نالت الفكرة إعجاب المشرفين و صرنا نعمل على أدوارنا بجهد مكثف حتى حان موعد الحفلة و قد كان يوما عظيما كأنه عيد , الملابس جديدة و الوجوه باسمة حالمة, أباء و أمهات حضروا لتشجيع أطفالهم فقد كان هذا اليوم مختلفا ففيه يعمل الأطفال ويتنافسون على لقب " التلميذ المثالي" , كانت الفقرات المتنوعة مثيرة و غنية المحتوى , ها قد صار موعد مسرحيتنا , عم السكون فور الإعلان عن المسرحية , أدينا واجبنا و أوصلنا رسالتنا على أكمل وجه و فور نطقي لكلمة " إهمالك يا أبي يدمرني " نظرت إلى الجمهور فرأيت رؤوس الأباء قد طُأطأت و دموع الأمهات قد سقت خدودهن و عم صمت رهيب لا تزعجه الا شهقات خفيفة و فجأة كسر التصفيق حاجز الصمت و تعالت الكلمات المشجعة .
انتهى الحفل و قد حزت على لقب "الطفل المثالي " و أنا على منصة التكريم كنت أبحث عن معلمتي حتى رأيتها تصفق و الدموع تلمع في عينيها و هي تقول:" لقد شفي بطلي !"
لقد عالجني المسرح و رمم روح الطفل المنكسرة داخلي و جعلني طفلا سويا خاليا من العقد و المشاكل النفسية و أيقنت أن المسرح ليس وسيلة للعب بل هو أعمق فهو دواء لمشاكل و عقد نفسية و هو فضاء رحب ثري بالعلم و هو أساسي لإكتشاف أنفسنا .

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق