مسكونا بالغربة والشوق والحنين . . .
_______________________________________1
كان جالسا في محطة القطار... ينتظر القادمين من البعيد . تطاولت زخات المطر حتى بللت جبينه وهي تداعبه... أبعد يده اليمنى عن جبينه... بعدما أيقن أن لا فائدة منها .
تداعى مع أفكاره وهو يعد سنوات عمره الذي امتد على حين غفلة إلى خريفه... فانتابته رعشة لم يعرف إن كانت بسبب البرد... أم بسبب اكتشافه الآني بأن فصول عمره قد شارفت على الانتهاء... وهو ما زال ينتظر... بل هو لم يفعل في حياته غير الانتظار ..فقد إنتظر والده طوال سنين عجاف . . . . . .
وفي كل سنة كانت الطيور المهاجرة تعود من بعيد لتعشش في وكر الجبل... ولكن والده لم يعد معها إلى العش الذي بناه .
فجأة ...اقتحم عليه أفكاره شخص غريب... ألقى عليه التحية ثم سلمه... بعد أن صافحه.. مغلفا داكن اللون.. كلون معطفه القديم... نهض بعد ذلك ليعود إلى البيت وهو يحمل المغلف الداكن بيده ومتأبطا حزنه الذي بان واضحا على محياه .
في البيت... جلس على مقعده الخشبي... ساهم النظرات وهو يتطلع في المغلف الذي لم يغادر يده اليسرى منذ استلمه من الرجل الغريب... كان جوابا على رسالة بعثها لأبنه الكبير يطلب منه الحضور قبل موسم الشتاء... ليكون بجانبه بعد أن قد قرر الأطباء بتر يده اليمنى بسبب المرض اللعين الذي اصابه فيها . تصبب منه العرق غزيرا ...وكاد يختنق وهو يقرأ رد إبنه... قال له بكل صلافة... أنه قد ارسل له بعض المال ليعينه على فصل الشتاء وليسدد تكاليف العملية الجراحية التي ستجرى له .
_____________________________________2
كان الصيف حارا وجاف... أخذ يلفح جبينه وهو ينتظر العائدين في محطة القطار مرة أخرى... أيقن بعد سماعه أصوات صراخ وندب... بأن جنازة قادمة من البعيد . . . .
بدأ صوت النساء يعلو في بكاء... وبات الصراخ مدويا يلف المكان... في تلك اللحظة تذكر بكاء زوجته وهي فراش الموت ...تصارع المرض... حينما طلبت منه مرارا أن يحضر لها ابناؤها الثلاثة ...كي تودعهم قبل الرحيل .
كانت الشمس قد شارفت على الغياب .
لم تستطع حرارتها القاسية طرد الأفكار من رأسه... كان يستحضر صور زوجته... وصور الجنازة... ومن مروا . . . .
تقدم إليه شابا يافعا بخجل... وأعطاه مغلفا... قال هذا من ابنك أرسله إليك كي يعينك على حر الصيف وتسديد فاتورة العملية الجراحية .
لملم ما تبقى من قواه .
وأخذ يجر بعضه على طرف رجله اليسرى.. التي باتت لا تستطيع حمل كاهله الحزين... وعاد ساهبا إلى البيت .
_____________________________________3
بات يراقب الطيور... وهي تغرد على مقربة من نافذة غرفته... في صبيحة اليوم الثاني للعملية الجراحية التي اجراها في المشفى... بادرته الممرضة السلام... وكان الأمل يشق بريقا من عينها... بات مسترسلا بابتسامة طفولية بانت تعلو جبينها... قالت له... ما زال قلبك يانعا يحمل في طياته أحلام الشباب .
رد عليها... بابتسامة عريضة.. مجبولة... بالحسرة .
وطلب منها أن تحضر له ورقة وقلم... بات يكتب نص رسالة... ﻷصغر أبنائه... وكان نصا لا يحمل كثيرا من العبارات . . . .كتب فيه.. إن الخريف قادم يا بني .
بت لا أعلم أي الأعضاء ستبتر من جسدي ) ) )
سأبعث لك "قلبي النابض كي ينتظرك في محطة القطار"
نور شحادة .

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق