أرضي ...جنتي
كان يومه يبدأ باكرا وليس ذلك بغريب عمّن تعوّد على ان ينسج يومه من خيوط الفجر ومن ظل يسابق شروق الشمس ،ليلتحق بمقر عمله، اذ لطالما آمن بأن من تأخر في نومه ، تأخر رزقه،وكان حريصا على أن يصحو باكرا ،ليكسب رزقه ...
لم تكن عودته الى أرض الوطن من "بلاد الصقيع "، عودة للراحة والاستجمام بعد تعب وإجهاد بل كانت فرصة لممارسة أعمال أحبها وٱفتقدها وحنّ إليها...وكانت أحب الاعمال إليه هي خدمة الأرض...
فليس أكثر من الأرض قدرة على أن تشعر من عاش بين براثن الغربة بالأمان ...بالانتماء...وليس أجمل من الأرض أمّا ووطنا وحضنا دافئا،يعوض من أضنته الغربة عن سنوات الحرمان التي عاشها بين فكيها...
لم تكن الأرض حفنة من تراب بل هوية وعمرا وتاريخا...كانت كلما عاد إليها بعدطول غياب تسعد بلقياه،تحتضنه بكل شوق ولهفة وتبعث فيه روحا ، تفارقه بمجرد البعد عنها...كانت الارض له حياة...وكان لها روحا...تحييه فيحييها...
بعد كل عودة من بلاد الغربة ،كان يحاول ان يرتب بعضا من قطع الزمن المشوش في ذهنه...أن يعيد تركيب الحياة من جديد،أن يفتك تفاصيلها من فكي الزمن الهارب وان يستعيد سعادة ضائعة...وعمرا أفناه في بلاد الصقيع...
وكانت الأرض هي الحضن الدافئ الذي يتلقفه ويحيي فيه الجسد والروح...
كنت طفلة وكان للأرض عبق يعطّر طفولتي، وكان لها في ذاكرتي صوت دافئ ينعش روحي ويوقظ الطفلة في داخلي ... صوت زقزقةالعصافير وهي تحلق بسعادة، يتناغم مع خرير المياه المنسابة في السواقي و حفيف الأشجار الذي لطالما داعب مسامعي وأشعرني بالبهجة والسعادة...أشجار البرتقال واللوز والزيتون...
كنت طفلة،أتنقل بين السواقي،كفراشة،أقفز قفزات هنا وهناك وسط أصوات أبي الغاضبةحينا ،خوفا من ان تطأ قدماي الزرع الفتيّ فتتلفه ،والمنادية أحيانا كثيرة،لمشاركته متعة اكتشاف بزوغ نبتة من جوف الأرض، أو لسقوط فرخ عصفور من على شجرة نحاول معا إعادته إلى وكره دون أن يصاب بمكروه ...
لم تكن الأرض حفنة من تراب ،بل... ذاكرة وعمرا وتاريخا...وكانت ...جنّة أبي وجنّتي...
حبيبة عداد
تونس

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق