على دروب الجمال ****الشيفرة الكونية
تحية الصباح الجميل والعطر
فلسفة الفن و الجمال (فنجال))
رماز الاعرج
الحلقة التاسعة عشر
5: الجماليات والحاضر والمستقبل
كما تعلمنا من نظرية المعرفة والمنطق الفلسفي الحياة والتاريخ البشري يسير من الماضي الى الحاضر الى المستقبل انها سلسلة لحلقة واحدة ودورة متكاملة نسميها الحياة , ونحن نرث الماضي ونعيشه في كل شيء من جنات وراثية الى طبيعة ومناخ ومرحلة تاريخية وعصر , وفكر وثقافة ولغة ودين ومفاهيم كثيرة متنوعة , اننا نتاج الماضي بكل ما تحمله الكلمة من معنى , نحن هي تلك الحلقة التي تصل الماضي بالحاضر ومنه الى المستقبل , ويمكننا ان نتخيل انسان يسير , كل خطوة له تكون احدى قدميه على الارض خلفه و الاخرى في الهواء مندفعة الى الامام دوما , ان الانسان في سيره يجسد هذه الحالة تماما , الحاضر هو تلك الخطوة المعلقة في الهواء دوما وتحط بنا في مكان ما , ونضع قدمنا بثبات وننقل الاخرى .
انها مسيرة مستدامة لا تتوقف , مع كل خطوة نخطوها نحن نسير في المستقبل القريب المباشر خطوة بعد خطوة , وتركم هذه الخطوات يشكل مسيرا طويل ورحلة معينة ننتقل من خلالها عبر الزمان والمكان والعصر والتاريخ , نحن التاريخ ونحن من يصنعه كلا في مكانه ودوره ويكتمل النسيج المجتمعي الحضاري و الانساني .
الماضي ما زال فاعل فينا , وهو ما يجعل الحاضر فاعتل ايضا , وهذا الحاضر حين يتفاعل بسبب الماضي و اثره يصبح متفاعل , ومنه ينتقل الى المفعول اي المستقبل وتستمر الدورة بين الفاعل والمتفاعل والمفعول .
ان فهم الماضي و الحاضر العميق وعلاقتهما يمكننا من رؤية المستقبل بكل ثقة في الكثير من أحواله , والحاضر يحمل الماضي والمستقبل معاً , إنه امتداد للمضي وتواصلاً له ويحمل عناصر الماضي في داخله وعناصر المستقبل معاً , فنحن نحمل جنات وراثية وثقافة وفكر وكل الموروث هو من عناصر الماضي , إنها تستمر في الوجود من خلالنا وفينا , ينفى منها ما ينفى مع الزمن والبقية تستمر , يتساقط منها مع خريف كل عصر الكثير من الأوراق اليابسة التي تنتهي بانتهاء موسمها , وتبقى الجذور والسيقان والأغصان القوية والتي تشكل هيكل الوجود الحضاري البشري , تماماً كما تسقط أوراق الشجر مع كل موسم في دورة الطبيعة , إن المستقبل يصنع في الحاضر وبإمكاننا أن نشاهده بوضوح فيما لو أمعنا النظر قليلاً , حيث الصرح الإنساني يمكن أن نراه تماماً كما البيت الحجري كل صف من الحجارة سيحمل الصف الأحق ويكون أساس له , قد تتنوع المسارات وتختلف الأحداث وذلك يعتمد على الظروف التاريخية والضرورات والصدف ولكن الاتجاه العام لهذا المسار يمكن التنبؤ العلمي به من خلال العلم والمعرفة.
فالنظام الربحي مثلاً يسيطر على العالم وأصبح الاَن منتشراً على نطاق واسع مضطرد , حيث العولمة الاستعمارية الربحية تهيمن على كل مفاصل الاقتصاد العالمي , وهذا يعني أن هذا النظام سوف يفرض مفاهيمه الجمالية بالكامل في المستقبل المنظور , أي الجماليات الاستهلاكية , وما نراه اليوم من تحول ونزعة إلى الجماليات الاستهلاكية هو حجر الأساس للجماليات المستقبلية وهذا المسار للجماليات واضح تماماً , فالنظام المسيطر هو من يفرض إرادته ومفاهيمه وهذا لا لبس فيه عبر التاريخ الإنساني , وانتشار الثقافة الربحية ونموها واضحاً أيضاً ولا لبس فيه , ولا من وعي كافي كماً ونوعاً لمواجهته بما يوازي المحافظة على الثقافة البديلة له (الأصالة) مما سيجعل من الجماليات الأصيلة تميل تدريجياً إلى الإنقراض , وليس هي سوى بضعة عقود ويصبح كل منتج أصيل نادر وجوده إلا في المتاحف , أو بعض الصالونات الخاصة , ويعتبر جزء منقرض قديم ويشعرونه قادم من عصراً كلاسيكياً يشبه ما كان في الحضارات القديمة مثل السومري والمصري واليوناني والروماني والإسلامي القديم , قريباً ستصبح جمالياتنا الحالية الأصيلة أو ما تبقى منها , مجرد اَثار من مخلفات الماضي , ولا تستعمل , لن يراها أحد سوى في المتاحف كآثار قديمة منقرضة , ولا انتشار لها بل تكون قد خرجت من الاستعمال العصري , بكافة قيمها ومفاهيمها الأصيلة , وسيحل محلها مفاهيم الاستهلاك الجمالية والدعوية الطابع والفاقدة للقيم الإنسانية الطبيعية , إن الإنسان مقبل على مرحلة التحول الرقمي حتى في بنيته الهيكلية والوراثية , والاستهلاكية تتجذر بشكل فظيع وعبر سير الزمن باتجاه المستقبل.
إن الإشكالية تكمن في غياب الوعي الكافي لمواجهة المرحلة وهي متروكة للسلطة السياسية تصنعها كما يحلو لها , و تصيغ المجتمع وتصنعه بالطريقة الملائمة لسوقها ونظامه الاستهلاكي الاستغلالي المهترئ إنسانياً وحضارياً وروحياً من حيث القيم والأصالة ونوعية الوعي البشري الاستهلاكي المراد تصنيعه , أن الجماليات دوماً تتأثر بالوضع القائم تاريخياً , وكما تساهم الجماليات في البناء السلبي يمكن أن تكون هي ذاتها الأداة والوسيلة الفاعلة في مواجهة العولمة السلبية.
فوعي النخب المثقفة و الفنانين والمفكرين لطبيعة المرحلة وإدراكهم لرسالتهم الحقيقية , في الحفاظ على الأصالة وإنتاج الإبداعات الفنية العميقة التي ستنقل فعلاً الوعي الجمالي إلى المستقبل ,,, فالفن الدعوي والترويجي هو فن زائل بزوال الحاجة التي وجد من أجلها أو السلعة التي وجد لترويجها.
إن الحاضر الذي تعيشه الجماليات لا يبشر إلا بما يحمله من نزعة استهلاكية عامة , ونرى بالمقابل نزعة جمالية جديدة قديمة تعود إلى الأصالة مع الحفاظ على التجديد , إن هذه الأقلية التي نراها حالياً في الفن المعاصر رغم أنها ليس أكثر من أقلية إلا أنها قادرة على فرض نفسها والحفاظ على الأصالة في منتجها رغم ميول العصر إلى الاستهلاك , إنها بذور الأمل المستقبلية لنقل الأصيل من الفنون والثقافة للأجيال القادمة ,, قد لا تجد الاهتمام الكافي بما تنتجه حالياً , ولكنها مركب الخلاص للأجيال القادمين الذين لم يروا النور بعد ولكنهم حتماً قادمون.
*******
خاتمة
طال بنا الطريق و أحاديث ذو شجون , خلال نزهتنا معاً وطاب المسير بنى على دروب الجمال , وأصبنا ما أصبناه من المتعة والشجن في هذه الدروب الملونة الرائعة ,, الكثيرة المسالك والمتاهات , وفي مرحلة ما كدنا نضل الطريق ونضيّع مسار العودة , فلا عودة في المعرفة , ( المعرفة وحدها هي الطريق التي لا رجعة فيها) ففي المعرفة نحن نسير إلى الأمام دوماً , وكل معلومة جديدة تنقلنا إلى خطوة جديدة لا يمكننا أن نتراجع عنها (فحين ننتهي من قراءة الجملة لا يمكننا أبداً العودة عن ذلك) فقد قرءنا الجملة , لقد عرفناها وانتهى الأمر ولن نعود عن هذه المعرفة , ولهذا نقول إن المعرفة هي الطريق المتجدد نحو المستقبل دوماً , ولم ندعي أننا قد ختمنا المعرفة أن كل ما حاولنا القيام به هو رحلة قصيرة متواضعة على دروب الجمال في موطنها الأصلي (الواقع ذاته) وتتبعنا المظاهر الجمالية في مرابعها محاولين إلقاء الضوء على جذورها العميقة والكشف عن جواهرها وأسرارها المخفية عن أعيننا بسبب الموروث الفكري والثقافي الإنساني الكفيف البصيرة , حيث تم فصل الكثير من القضايا الهامة والحساسة عن أصولها وتحولت إلى مكان غامض لا يمكن وصوله .
هذا على الأقل ما نشعره للوهلة الأولى حين نقترب من دراسة المفاهيم المتعلقة بالجماليات , حيث نبدأ بتسمية موهبة وحدس وإحساس وغيرها من المفاهيم التي توصلنا في النهاية إلى طرق مسدود في تفسيرها , حيث هي في عالم الغيب , عالم غائب عن وعينا ولا مجال لإدراكه حسياً .
إن اعتراضنا ليس على المفاهيم بحد ذاتها بقدر أننا نعترض على تفسير هذه الظواهر والمفاهيم , وحين لا نجد الإجابة الشافية في الكتب علينا البحث عنها في الواقع , فمن سبقونا لم يقفلوا طريق المعرفة , بل فتحوها لنا ,, هكذا علينا رؤية الموضوعات المعرفية .
ومن جهة ثانية وهامة لا بد من لفت النظر إليها , وهي أن السابقين في المعرفة لم يتوفر لهم نفس الإمكانيات والتقنيات المتوفرة لنا حالياً , ناهيك عن المستوى المعرفي للبشرية الذي يسير دوماً إلى الأمام ويبنى كما يبنى البيت الحجري تماماً ولا يمكن بناء المعرفة في الهواء دون أساس , وفي حال كان هذا الأساس يفضي إلى طريق مغلق فهذا معناه المتاهة الحتمية , وحينها فقط يمكننا العودة إلى بداية طريق المعرفة , أي العودة إلى الأصل والواقع .
إن كل ما ورثناه من ثقافة مكتوبة ومتناقلة بحاجة إلى غربلة وإعادة نظر وصياغة جديدة وأصيلة وعصرية , ليس على أساس أي نظرية بل على أساس الواقع ذاته , فهو كفيل بالتعبير عن ما يحتويه إذا تكفل عقلنا برؤيته بطريقة محايدة ومنفردة منعتقه من الموروث وتنظر إلى العالم نظرة إعادة الاكتشاف لكل ما نعرفه .
إن هذا الرجوع إلى الجذور قد فتح أمامنا اَفاق جديدة , حيث تبين لنا أن الفن والجمال غير مقتصر على الإنسان وحده , وأن التذوق الجمالي ليس صفة بشرية فريدة بل هي من صفات الكائنات الحية جميعها , واستشهدنا بالحيوانات والطيور كأمثلة حية ومنها فسرنا ما نراه , أن الرؤية والتفسير التقليدي للجماليات يبقى مجزوء وغامض ومقطوعاً من جذوره في ظل هذه الرؤية العرجاء الأحدية الجانب , حيث تفصل الجمال والإنسان ووعيه عن الطبيعة , وبذلك عن جذوره ,, وتتحول الظواهر الجمالية إلى ظواهر غريبة وغامضة غير مفسرة , رغم أنها دائماً تحت بصرنا وحواسنا جميعها ,
(إن الغموض ليس في الواقع بال لغموض في طريقة رؤيتنا لهذا الواقع وكيفية تفسيره)
فالجمال من ظواهر الطبيعة ومن صفاتها ولا من شيء يخلو من الجمال في الكون , ووجوده ضروري ومن ضمن شروط وجود الأشياء والظواهر , وبذلك هو جزء أساسي وجوهري من الوجود , وتتأثر به جميع الكائنات ولكن كلاً ومستوى تطوره وتركيبه الحيوي والعصبي والدماغي , وعند الإنسان نصل إلى مستوى عالي من التعقيد , حيث يصبح الجمال المنتج متنوعاً ومعقداً وذات أبعاد عميقة ذهنية وحسية وروحية شاسعة , وبهذا فهي كظاهرة لا تقتصر على الإنسان وحده بل هي جزء من ظواهر الطبيعة وتفاعلاتها ولكن بطرق مختلفة بحسب كل مستوى من الوجود وتطوره التاريخي.
إتضح لنا في الواقع إمكانية الكشف عن مصادر الجمال وتنوعها , وتبين لنا واضحاً كم هي محدودة معارفنا عن الواقع مما يعني أننا بحاجة إلى الكثير والمتواصل لتحقيق المعرفة الواقعية للجمال والإنسان معاً , فجميع موروثنا الفكري والمعرفي والجمالي بحاجة إلى غربلة جادة وتجديد وتطوير , وهناك مساحات شاسعة من الواقع والوجود ما زالت بكراً على المعرفة الإنسانية , رغم أن الإمكانيات المعرفية والتقنية والتكنولوجية تتيح لنا مساحة أكبر بكثير من ما يثير اهتمامنا لاكتشافه ومعرفته , إضافة إلى الفائض من الوقائع التي ما زلنا نفسرها كما تلقنّا ذلك دون الرجوع ولو مرة واحدة إلى رؤيتها في الواقع كما هي عليه , بل نحاول فصلها عن الواقع ليتسنى لنا تطبيق رؤيتنا عليها , ولو حاولنا تطبيق رؤيتنا عليها في الواقع لاكتشفنا مدى الإختلاف بين الواقع والفكرة التي نحملها عن الواقع في رؤوسنا , ولكننا في العادة لا نحاول ذلك بل نكتفي بما نجده من إجابات جاهزة ومريحة , ونمضي معتقدين أننا نمتلك الحقيقة كلها بما نحمله من معارف عن الواقع دون التفكير أو مراجعة مدى دقة معارفنا وتناسبها مع الواقع.
إن الهدف البعيد المدى لهذه الدراسة لا يقف عند الرغبة في اكتشاف الحقائق بل يشكل صرخة تحريضية للعقل للعودة لاكتشاف الحقائق من جديد وفق واقعها , ويفتح أبواب جديدة لمعرفة عالم الطبيعة الجمالي الذي لا نراه سوى مسطح دوماً ننفي وجود المشاعر لدى الحيوانات , ورغم أننا نرى انفعالاتها من فرح وحزن إلى اكتئاب , ونرى الأم حين تبكي وتظهر تعابير الحزن على مرض أو فقدان صغارها وغيرها من الإنفعالات ,إلا أننا نبقى ناكرين عليها مفهوم الجمال والمشاعر ,
ألا يحب الطير صغاره ؟
ألا يحب الإناث والذكور بعضهم في الطبيعة ؟
ألا يتشاركون الحياة سرائها وضرائها ؟
إن الحقائق ماثلة أمام أعيننا وما علينا سوى رؤيتها كما هي عليه سائليها هي ذاتها عن أحوالها بدل سؤال الكتب والموروث وما طبع في أدمغتنا من قوالب.
إن الرؤية الشمولية والمحايدة للواقع هي الكفيل والضمانة التي يمكننا الوثوق بها للوصول إلى الكشف عن الحقائق وطرق دروبها البعيدة لتصبح قريبة , ومنها إلى المفازات الفكرية ودروبها البعيدة لتصبح هي بدورها قريبة وتكمل دورة المعرفة الأزلية التي لا يمكن أن تكتمل مهما سرنا بها , وكل حقيقة سوف تقودنا إلى حقائق جديدة ومتنوعة وتساؤلات جديدة , وهذا هو سر سرمدية المعرفة ولا نهائيتها.
*****
**مقتطفات فلسفية **
( الجمال هو مصدر الفن الأساسي , وليس الفن سوى شكل وتجلى من تجليات الجمال وظواهره)
( وما أدرانا كم من تعابير الغزل تحمل تلك المقطوعة التي ينشدها الحسون أو الكناري لحبيبته , لتعجب به و تسحر وتقع في غرامه)
( نرث مفاهيمنا الجمالية كما نرث جناتنا الوراثية)
(إن اجتماع مستويات الجمال جميعها في شيء واحد لا نجده سوى لدى الإنسان العاقل)
(التذوق الجمالي من أكثر مظاهر الوعي الإنساني تعقيداً وثراء بالقيم الجمالية المتنوعة والشاملة لكل مظاهر الشيء وجوهره معاً ,, مما يجعلها بالضرورة حالة شمولية من الأحاسيس والمشاعر الحدسية الجمالية العميقة المطلة على ظاهر الشيء وباطنه سوياً)
(المنتج الجمالي الذي لا يبهر منتجه ولا يطربه هو عملاً فنياً ضعيفاً وغير مكتمل الصفات الجمالية )
(العازف الذي لا يطرب لعزفه لن يطرب أحداً)
( ليس الفن سوى تجريداً للواقع في أفكار ذهنية ووضعها في سياق جمالي)
(ليس الفن سوى مرآة وكتاباً مفتوحاً لغته أفكار الشعب وثقافته ومعتقداته)
( في الحزن الذي يسببه الفن فرح وفي الفرح الذي يسببه الفن سعادة)
ا

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق