أسعدَ اللّهُ أوقاتكم...
يسعدني أن اتقدمَ بهذه القراءة المتواضعة لنصٍّ كبيرٍ بما يحملهُ من أفكار و صور و رسومات بالحرف الأنيق و المداد الرائق، على فضاء الشّبكة الزرقاء...قصيدةُ نثر للإستاذ "عبد الصاحب ابراهيم أميري/ ايران"، و صلتني من (مجلة الثقافة و الفنون)...
عسى أن أكون موفقًا بما تناولته، و بحسب ما توافر لديّ من معلومات في مجال الكتابات الإبداعية، في الأدب الحديث و المُصاحب للسرعة في التأثير و القبول من قبل المتلقي الذي يطمحُ أن يتذوقَ كلَّ شيءٍ جديد، بقدر ما يَتَحَصَّلُ لهُ في زحمة الحياة.
وَ نَأَيْتُ بنفسي عن الخوض في لغة و أسلوب النص، تاركًا الأمرَ لأهل الإختصاص، سواء من الدارسين أو المتلقين!
البدايةُ:-
قصيدةُ النّثرِ:-
الناقدةُ الفرنسية"سوزان برنار" تقول في تعريفها لقصيدة النثر:-
بانها قطعةُ نثرٍ، موجزةٌ بما فيه الكفاية، موحَّدةٌ، مضغوطةٌ.. كقطعةٍ من بلور."
و قصيدةُ النثر جنسٌ فنيٌّ أدبي يَسعى التَّخلّص من قيود العروض في الشعر العربي. تحملُ بين طيِّاتها سماتِ الشّعرِ و السّردِ و النّثرِ الفني!
لها إيقاعٌ داخلي، غير منتظم، تلعبُ علاماتُ الترقيم دورًا مهمًا في ابرازه!
و هي جزءٌ من التجديد في الشعر العربي المألوف، تأثرتْ بمنجزات الحضارة الأوربية الثقافية و الترجمة، و آمنتْ بضرورة التجديد و النزوع الى الحريّة.
تعتمدُ على الصُّور الشعرية أكثر من الصوت، لها موسيقاها الداخلية، مع إيجازٍ و تكثيفٍ واضحين.
إلتفاتةٌ قبلَ البدءِ بالقراءة:-
التَمنِّي في المستحيل، و التَرجّي في الممكن!
هذا القول شَقَّ صفَّ المتحدثين في ذلك، تبعًا للمتحدث نفسه.. هل انه من المبتدئين في المعرفة، أم من المتقدمين في العلم و المعرفة؟
فالتَّمنّي:- طلبُ حصول أمرٍ محبوبٍ، مستحيلُ الوقوع، و غالبًا ما نستعمل للتعبير عنه الحرف" لَيْتَ"!
{يا ليتني مُتُّ قبل هذا...} مريم-٢٣.
أمّا التَّرجِّي:- فهو قريبُ الوقوعِ، يترقبُ المُترجّي حصول شيء مراد تحقيقهُ مع بذلِ جُهدٍ و حُسن توكل، أي: طلبُ الممكن. و غالبًا ما يكون حرفهُ"لَعَلَّ". {لا تدري لعل الله يحدثُ بعد ذلك أمرًا} الطلاق- ١.
أصلُ الموضوعِ:-
القصيدةُ من أربعةِ لقطاتٍ فنيةٍ، لكلِّ واحدة منها عالمها الخاص بها، تستقل بافعالها و أفكارها عن الأخريات.
تشكِّلُ جميعها سلسةً من حلقاتٍ يربطها نَفَسُ الشاعرِ و مطاولته في خضم تتابع موجات القهر، و هو راضٍ مقتنعٌ بما آلَ إليه مصيره مع الحلم أو السراب أو الزَبَدِ و هو يذهبُ جُفاءً !
مصيرهُ الذي رماهُ في عَرض الأرض و طولها، و راحَ يتلذَّذُ بملحِ أحلامهِ، و جَفافِ رِيقهِ، و نكوصه!
نَعمْ نكوصه.. و هو يتقهقرُ فيه إلى مراحل العمر، لعلَ فيه بقية من سلوك يحققُ فيه راحةً و متعةً تشعرهُ بالأمان، بعد أن فَقَدَ القدرة على تحقيق توافق سَوٍي، استجابةً شائعةً للإحباط!
و لَعُمري! أن هذه -الحيلةُ- إن جاز التعبيرُ، لا تحصل إلّا بعد الخروج من تجربةٍ قاسية و قوية جدًا، يَضْطرُّ فيها الانسان- البالغ الراشد- إلى سلوكٍ يُعابُ عليه في أغلب الأحيان، بَلْ يَمقتهُ الآخرون جملةً و تفصيلًا!
كأن ( يمصُّ إبهامه، اللعب بالدمى، الإجهاش المفاجيء بالبكاء غير المسوِّغ، صبغ الشعر و اللحية، البحث عن زوجة ثانية... إلخ.)
تصويرُ النصِّ بالكلماتِ:-
الشاعرُ الذي تصدَّى لمهمة تذوّق تجربة وجدانية سَحقتْ بقايا "عاشقةٍ"! انتقلَ بنا من عالم المادة الخاضعة للزمان و المكان، نتلمسُها و نعرفُ بموجوداتها بحواسنا الفسلجية.. إلى عالم المادة المحسوس!
مِنْ عالمٍ ملموسٍ إلى آخرٍ محسوسٍ...
و تركَ لجهاز الدماغ أن يفكَّ طلاسم الفرق بينهما.
عالم مادي نستدلُّ بالحواس على ادراكه و معرفة معطياته، و عالم آخر.. نستدلُّ بالمشاعر و الأحاسيس على معرفة معطياته! كالحُبِّ و الكُره، و الفرح و الحزن، و الشجاعة و الكرم و الضمير... و غيرها.
و المحسوسُ يمكنه ان يُحركَ الملموسَ، و العكسُ صحيح!
فالحبُّ مثلًا.. غير ملموس، يحرك كل شيء فينا ملموس! فحبُّ الوطن و الأهل و حب الأنا، و الحب العاطفي..
جميعها تحرك المشاعر و تُلهِب ُالأبدان و تتلاعبُ بمصير الانسان!
غَوْرُ النَّصِّ:-
هذه الإنتقالة الآنفة الذكر (من.. إلى...!)
تستوجبُ منّا ان نسلطَ ضوءًا على أربعةِ لقطات لمجمل النص:-
الأولى:- الصبرُ و الانتظار.
الثانية:- الوُلوجُ في معترك الحدث.
الثالثة:- القنُوطُ و اليأسُ و الخيبة.
و الرابعة:- الحُلُم.
فالأولى:- الصبر و الانتظار.
تضعنا أزاء أعلى درجات الصبر و حبس النفس و التَجَلُّد و حِسْن الإحتمال، و له أنواع و ثمار، و اجراءات تساعد عليه.
و من درجاته- الصبر الجميل!
أي- الصبر بلا شكوى أو قلق، إلا لله تعالى{ انما أشكو بثي و حزني إلى الله..} يوسف- ٨٦.
و تنتقل بنا اللقطة إلى ساحة الإنتظار، إلى ألمٍ إضافي! و الانسان لا يموت في السجن من الجوع أو الحر أو البرد أو الضرب أو المرض.. إنّما ساعات الٕانتظار تقتله!
هذه اللقطة جرَّتنا إلى 'عاشقة' تتفحص بعينيها آثار الرائح و الآتي في طريق 'معشوقها'.
و في الحقيقة لم نتعرفْ عليها بأية حاسة من حواسنا، إنما اكتشفنا اننا في عالم آخر تسوده المشاعر ، و تصف لنا (ما خلف الحب) و هي تنطق و تقول:-
"نحن عراةٌ.. نذهبُ كما أتينا" .
و نتساءلُ مع المشاعر:-
"ما معنى الفراق.. العذاب.. لِمَ لا تتحقق الامنيات؟"
و نعود و نتذكر:- ما هو التمني؟
انه طلب حصول أمر مستحيل الوقوع!
فلا الصبر، و لا الانتظار، و لا الامنيات هنا تجدي نفعًا، لانها من المعجزات، مستحيلةِ التحقيق!
الثانية:- الولوج في معترك الحدث.
تَنفضُ تُلْكُم 'العاشقة' غبار الانتظار و تَلِجُ ظلامًا دامسًا، و هي ضريرة، تدلُّها عصاها على 'محبوبها' بعد ان شطبتْ حواسّها جميعًا.. تُخَبِّطُ على جدران اليأس و الحرمان التي صنعها هجر الحبيب! و لمدة طويلة.
(دون تعبٍ.. دون جهدٍ).
بَيْدَ أنها تنطرحُ ارضًا، مهزومة و مخذولة، بعد اصطدامها بألف معوق و معوق! قلبها كَسِير، لوحدها دون جمهور أو مواسي لها، في نهاية جولة حياتها.
الثالثة:- القنوطُ و اليأس و الخيبة.
القنوط-- اليأس و السخط، اليأس من الرحمة او الخير، و غلق باب الأمل.
و القانط هو من ضاقت نفسه و تراكمت عليه الهموم.
امّا الخيبة-- تأتي للانسان بعد فَقْدِ الأمل.
هذا القنوط يقود إلى الإجهاش بالبكاء، و التأسِّي بالدموع، و مقاربة الغرق بها.
ثم العودة إلى العرين بعد الخيبة و فقدان الأمل من ذلك الانتظار و الصبر، تَجرُّ معها أطفالها إلى حَتفِهم/ السجن، و تغيب في غياهب اللّاوعي!
أما اللقطة الاخيرة حملتْ.. الحُلم!
و الحلمُ سلسلةٌ من التخيّلات في أثناء النوم، و هي وسيلة مُثلى (تلجأ إليها
النفس البشرية لاشباع رغبات و دوافع مكبوتة، صعبة التحقيق في الواقع!)
سيجموند فرويد...
و الأحلامُ- بذاتها- أمنياتٌ يُرجَى الحصولُ عليها و هي قريبةُ الوقوع، و ممكنة.
و نَلْحَظُ ان النص يرفعُ الستارة عن مشهد دراماتيكي، بحركة مؤثرة تنطوي على معاناة قاسية، يتولى فيها الشاعر/كاتب النص، تقليد تصرفات معينة و يطورها.
و كل ذلك بأفعال حركية متتالية:-
تضع.. تغفو.. تحلم.. تسبح..، و ما بينها من مفردات رابطة لسياقها، و تجعلها تأخذ منحى الانسيابية العالية لانهاء النص، لوْ لمْ يعمدْ كاتبه إلى تقطيعه..
لِصَحَّ القولُ فيه:- بانّهُ نصٌّ طويلٌ إلى حَدٍّ ما!
أخيرًا...
أرجو ان أكون وُفِّقتُ فيما ذهبت إليه، و أعطيت النصَّ استحقاقه في القراءة و التحليل...
مع اجمل التحيات
(صاحب ساچت/العراق)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق