الاثنين، 2 نوفمبر 2020

قــــــــراءة في..جدليّة العشق والانعتـاق..في بعض قصائد الشاعرة التونسية المتألقة.منجية حاجي بقلم الناقد والكاتب الصحفي محمد المحسن

 قــــــــراءة في..جدليّة العشق والانعتـاق..في بعض قصائد الشاعرة التونسية المتألقة.منجية حاجي

تصدير:إذا اعتبرنا الخيال عند افلاطون هو الجنون العلوي وان الشعراء متبعون وأن الأرواح التي تتبعهم قد تكون خيرة او شريرة ،لكن أرسطو هو الذي اعترف لصاحب الحرف في قوة الخيال وبالمكانة اللائقة به واثنى على قدرته في المجاز واعتبر الخيال قوة وطاقة ضرورية في القول الشعري..
حين نتعمق في بعض نصوص الشاعرة التونسية منجية حاجي التي أمامنا نجد أنفسنا أمام ثنائية المجاز والعشق الذي دلت عليه عناوين القصائد،فالشعر النثري لا يعتمد على التوصيل فحسب بل يسعى الى الجمالية اذ ترتفع بالذات الشاعرية عند منجية حاجي بلغة رشيقة،وصور رامزة ،وايحاءات كامنة في دلالات لا تخلو من فيض الاحاسيس والرؤى والخيالات القلقة التي تشير ولا تفصح،والمدرك منها يكفي لفهم ابعاد الرؤيا وتحسس ما هجست به وعنه في معادلة بالغة العمق جوهرية الدلالة ..
عاشقة متمردة وثائرة توشوش الغيم وتغني للسماء..تكتب الشعر بأنفاس حارة واسئلة عميقة عن ماهية الجسد والروح ..إمرأة من الزمن الجميل مصلوبة على حافة الشوق تشتعل كشعاع الشمس في خمرة البحر تبوح في الحب رغم الغلاف التابوي المسلط على عناق الحب بسيف الخطيئة والقبيلة ..
نعم نصوص حارة بلغتها وبأسئلتها الكبرى والحزينة وحروف حفيفة ومشتعلة كاشعة الشمس..
لغة متقنة وبلاغة صاخبة تزف الهوى على اجنحة الغمام..
تكتب بضوء القمر ما تعثر من وجد في طوق اليمام وتغزل من سنابل وطنها ومن هذا السكون قصائد عشق صامتة رغم بوحها في أوردة الروح،فيسيل الحبر الأحمر على قراطيس العشق المباح في الخطى السماوية ويحكي للعابثين بالحب وللراقصين على الجمر بأن العشق كذب ان لم أمن بمن سواك،هي لا تريد ان تدفن هذا الحب في طين الجاهلية في التوابيت فهي لا تخجل من ضوء الشمس وتغزل الفجر لحنا وتطرز المغيب وردا..
ألف تحية لسيدة الشهب وشرفة الفجر..وربى القيروان..منجية حاجي
هل بقي لديَّ ما أضيف..؟
قد لا أضيف جديدا إذا قلت أنه من الطّبيعي أن يوجّه المبدع اهتمامه الوجداني و الفكري للجانب الذي يجيده و الذي يرضيه..
ومن الطّبيعي أيضا أن يتعامل القارئ مع الإبداع الذي يتواجد بين يديه من حيث المعنى والمبنى و الجرس الموسيقي فيستسيغ بعضها أو كلّها..
و أنا عندما أتجوّل في قصائد الشاعرة التونسية المتألقة (منجية حاجي) انبهر لروعة الكلمات وعمق المعاني و جمال النّظم و أراها شمعات متوهّجة هي تنطق بكلّ مفردات الفنّ الجميل من حبّ و صدق و إحساس و بكلّ تقنيات النظم في أرقى المستويات نقرؤها و نعيشها ونحسّها ونجدها اتّساع البحر وانسياب النّهر و شذى العطر..
عرفتها إنسانة ودودة ،دافئة مبتسمة،شاملة تعيش اليوم والأمس..زمنها و الزّمن الجميل ..
تعيد الروح للضّاد بفضل ما تنطق به و ما تكتبه من مفردات اللّغة الجميلة..و شاعرة مبدعة تطلّ من خيوط شمس -تونس الخضراء-و تغزل الحروف بنبض من حرير،ونهرا متدفق العطاء نرشف منه الزّلال..و فكرا و وجدانا يضيء الدّرب للباحثين عن الكلمة الرائعة والإحساس الصّادق،ولها قصائدة شعرية متعددة اختلفت متونها ومضامينها الإبداعية فهي تكتب بكل الموضوعات الوجدانية والغزلية حيث في أشعارها نجدها أحيانا مشرقة وضّاءة و أحيانا مهمومة بقضايا الوطن و الأمّة و المجتمع زيادة على همومها الشّخصية التي تكتمها في دواخلها و تفجّرها على بياض صفحاتها..
و رغم كلّ هذا فهي تحمل الورد بين ثنايا السّطور ليعبق الجوّ بأريج الحبّ و التفاؤل،و تكتب بأسلوب زاخر بالصّور المتنوّعة سمتها صدق شعوري و إحساس فيّاض يشعرك بحبّ الحياة واستمرارها ..
إن نصوص الشاعرة (منجية حاجي) تمتلك حريتها المطلقة ولا تسمح لأي ثقل معرفي أن يفرض حضوره على نظامها اللغوي،أو تشكيلاتها البنائية والجمالية ..
نراها في غاية البساطة والشفافية..وهنا يكمن سرّ قوتها صلابتها وانفتاحها على التأويل مما يجعل متلقيها غير ملزم بفرض منهج نقديٍ عليها ..أو اللجوء إلى قوانين التنظير الأكاديمي الذي يلقى في قاعات الدرس..
إنها نصوص لا تقف عند حد ٍ ملزم ٍ للفهم،بل تنفتح على أكثر من جهة وفقا ً لرهافة ذائقة متلقيها وحسه الجمالي..وهذا مقطع من نص جديد:
مخالب لَحْظٍ المدينة/ خاوية على عروشها/في الشارع غراب ينعق/ يمتص دم اليتامى فيتسربل الألم/ عنق زجاجة فارغة/ أحلامها تبكي الوجع/ افتكو ماتبقى من خبز طحنته أياد المعدمين/ تستغيث الرحى من وجع الخواء/ يتسكع الغيث/ويتبع غمامة هاربة تنحت ذاكرة التاريخ على أهداب الجوع والعطش /فتبكي عليسة وقد اصابتها بعض الخيبات/ غابات من الحزن تتكدس في الأفواه/تيبس العشب/السنين عجاف/جرفها الطوفان مراوحا/أرفع صوتي في وجه الرّيح/ تورق الشمس أغصان محروقة كنوم بلا غرف/ مشيا بلا أحذية/ومقابر بلا جثث بكتها القلوب حتى جف ماء العيون برذاذ التمرد/ حتى خُيِّلَ إلينا أن.... /زنديق الشوارع هو...حامي الوطن
تلجأ في صياغاتها للرؤية الى تتبع الخطاب المرجعي الذي يتيح للبناء أن يتحقق باعتبار أن مفرداتها وتراكيبها اللغوية تثير حدثاً لاسيما تلك التي تحاول من خلالها ان تربط الحدث ببعضه موحدة ومنظومة متلاحمة ومتنامية داخلياً وخارجياً معاً،وهذا بالضبط ما تريده الشاعرة في توليفاتها النصية هنا،فالبحث حدث تبحث الحبيب الذي يسكن خلف شغاف قلبها الجميل:
قربان
حين يشتدُّ بي الجفاف أتذكر أنني : عشقتك يوما/وذبت في صدى الكلمات/ كلمات لا تعادلها كلمات /بها سرى الوجد في عروقي/ وغدا قلبي… /لمذبح العشق قربانا/ مدهش صوتك حبيبتي مثل القصيدة… /طالعة من حبر الخيال/ اذا لامس الكحل هدب عينيك… /تقيم العصافير مئذنة للندى/ ويصير المدى كرنفال..
قرأت هذا النص الجميل الراقي(قربان) للشاعرة التونسية المبدعة منجية حاجي أكثر من مرة،لأنني تفاعلت مع كل حرف من حروفه،لما يحمله من أحاسيس فياضة وجياشة،وما فيه من نبض قلب،وشهقة روح،وأنفاس شاعرة رشفت الحب والعشق من أحلى كأس..الحب الطاهر العفيف،والعشق الوجداني النقي،حيث تناجي الحبيب ربيع العمر،وسلوى الفؤاد،وحياة الروح باحلى الكلام.انها تبوح بخلجاتها ومشاعرها بكل صدق ورهافة وشفافية وعفوية.
وهذا النص لا يختلف عن نصوصها الأخرى المنشورة،فهي تراتيل غزل،وأناشيد حب،وترانيم فرح،وقصائد عاطفية رقيقة وشفافة بمعانيها وصورها الفنية الواضحة الساحرة بجمالياتها وايحاءاتها وتداعياتها،وتعكس كلماتها نبضات وجدانها على تقاسيم خواطرها ومواقع حسها،فتأتي ألفاظها ومعانيها سهلة،منسابة،سلسة،متدفقة،بعيدة عن الافتعال والتحذلق والتكلف والتصنع.
في كلّ هذا المشهد الشعري العشقي البهيج تبرز الشاعرة التونسيّة سليلة عاصمة الأغالبة (القيروان) متبرّجة حالمة تتجلّى شعرا وعشقا،لتصدح شدوا شعريّا جميلا نابضا..كأنّ هذا العشق قدر مقدور لا فكاك منه إلا بالوقوع فيه ..
حين تكتب (منجية) في وطنها ينهمر غيث دموعها فوق أوراقها دما ودمعا وبين ضحكاتها المتقطّعة من ذكريات مرّت انها تحب ناسها ووطنها حيث يعيش الوطن معها كثيرا،انه عالمها الكبير الذي لاحدود له ،تبكي فيها مرّة وتضحك أخرى حتى ظنّ من يلامسها عن قرب انها مجنونة بحب الوطن..كل كيانها المهموم..وأحياناً أخرى تجد في داخل نفسها امراة تحمل حكمة الأنوثة والأمومة والحب،وآلام خفية من إرهاصات إنسانيّة لا تتحمّل ثقلها،فتبكي لتخفف ذلك الألم، تظنّ أنّ البكاء سينفض من ظهرها المتهالك هذا الحمل الثّقيل ..
أقرّ أنّها ترسم في كتاباتها لوحة فنية أشكّ أحياناً أنّها تكتب بفرشاة وألوان وليس بكلمات هي طفلة في نص،وامرأة ناضجة بنص آخر:
يحدث أن أطارد الدخان
أرسم الجـــوع
أموت كالأحلام
مع شهقة اليتامى ومفردات الفراغ
ألا نستطيع البكاء غداً
لأطفال… لشباب في شعاب فارغة
أعقّد ضفائر التيه
أرمم صوتي فلا يدركني
يهرب مني
أجمع قصاصات عمري المبعثرة
أقرأ المسافات في كفي
أفك أزرار ذاكرتي
أتنصل من ذاتي ومن مرآتي
هل أستطيع البكاء… ؟
في ذروة صحوي…
في الحلم…
يتوزع البكاء في المحطات
في مسامير نعشي…
يحدث ألّا اموت
موتة أخرى
ليكتمل
العناق…
**************************
أرصفة الغياب
الأرصفة تبتلع خطايا
تزرعني في المنافي
أتبعها…
تأخذني مني
أراني عاريا
مني
ومنك
ذاتا كنّا
جائرة طقوسنا
متدحرجة أعالينا
تأرجحنا قليلا
تأرجحنا طويلا
في عش المواويل
كانت التفاصيل قليلة
كانت التفاصيل ضئيلة
انهكتنا الملاذات والفرار
رسمتنا المدينةَ
أنهجا وشوارع
القادمين…
زيدي ها كبدي
أدوس على طرف الليل
واقفة
أحزم كل حقائب السفر
أكتب يتمي في قفصي
بأصابعي أرتق كفني
يا لطيفه…
مازال يسكنني…
رغم الرحيل
متوثبة
أدوس على طرف الليل
كقشة بعثتها الرياح
نسجت بها العصافير أعشاشها
تقاوم تجاعيد العمر
بثرثرة فوق النجوم
يا لغربتي أتعبها الحنين
وحيدة كغيمة دون بكاء
وهيأها للبقاء
فصل
لا أعرف له
موسما…
على سبيل الخاتمة:
منجية حاجي شاعرة ناعمة رقيقة وبارعة، تبهرنا ببوحها الأنيق،وتكتب بلغة رشيقة باذخة، تمتص من خلالها كل نبوءات الجمال والسحر والبيان، فتدغدغ المشاعر وتلامس شغاف القلوب دون أن تحتاج الى جواز مرور.وهي تتميز في سبك القصيدة،وتنويع القوافي الندية،وتجيد ايما اجادة فن اغواء الحرف.
وغني عن القول،أن منجية حاجي ملهمة ترسم الورد بالكلمات،صورها الشعرية فاتنة ومبتكرة،وموسيقاها الداخلية هادئة تعانق الروح،وشاعرة مهذبة تعرف كيف تداعب الكلمة وتخيطها وتخلع عليها صفات الامتياز،فهي متميزة حسًا ومعنى،ومن دوحة الشعر السهل الممتنع.
فلها مجددا باقات حب وحبق،واسمى معاني التقدير لحروفها الحريرية
حاولت قبل قليل أن ألفت الأنظار إلى جماليات تضمنها تشكيل لشاعرة حقيقية استطاعت أن تصنع لنفسها مكانا بين الكبار وما ذاك إلا بتوفرها على موهبة شعرية أصيلة وذائقة اكتسبتها من تكوينها الإبداعي المتراكم عبر سنين طوال،فكل الدلائل في نصوصها تشي بذكاء حاد يساعد على صيد اللحظة الشعرية وقولبتها في القالب الجمالي لتكون الدهشة والإمتاع تحصيل حاصل.
أتمنى ان اكون قد تناولت ولو جزءا من أبعاد المشهد الشعري للشاعرة التونسية منجية حاجي، وقربت الفكرة الأساس من القارئ واستسمح السيدة الشاعرة"القيروانية" الأنيقة -منجية-في هذه القراءة المتعجلة..تحياتي وتقديري..
ختاما لكم سيداتي القارئات..سادتي القراء هذه اللوحة الإبداعية التي وافتني بها منذ حين الشاعرة السامقة منجية حاجي ولكم حرية التفاعل والتعليق:
جراح يمشي على جبيني التّراب
تسللا عبر مسافاتٍ فاض بها الطريق على خطاي
كما صمت الفيافي تسربل عبر دموع المآقي
سرنا على الجراح علّها تندمل
فازدادت صراخا
حفظنا لغة الطير كي نبوح ببعضٍ من صمت المرايا
قلنا مالم تقله الرّيح للوادي
حين هبوب مالم يوشوش به الزهر للعشب
حين مغازلة ما لم يصرّح به الحمام
حين ناح فوق قباب المساجد ما لم يقله التّراب للنعل
حين وطأت بقايا المقابر ما لم تبح به الشمس غروب
كما قلنا ما لم تقله السنابل حين يداهمها صهيل المناجل
قلنا... وقلنا... وقلنا... وأقمنا على الصمت. .. حـــ....... دّا
(منجية حاجي)

محمد المحسن

L’image contient peut-être : 1 personne, assis
L’image contient peut-être : 1 personne, gros plan

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق