من رواية "الهِجْرة إلى مَعْبَدِ الغُرَبَاء" للكاتب محمد بليغ التركي
كنتُ طوال حياتي، أحلمُ بالعيش في مَقَاميْن في نفس اللّحظة. حتّى حين كنتُ في "قطيع المواطنين"، لمْ أقفز حتّى أُرى. كان لي ركن حُجِب على جلاّدي هذا العالم. ركن طفل كنتُ أحيانًا أنساه في خان ملعون أو في طريق مجهول.
يناديني هذا الطفلُ في كلّ مرّة أضلُّ فيها آثار العودة إليَّ وإلى هذا الصمت المهيب. أقلعتُ عن الابتسام إلى من يبحثون عن قَرَفي في المستودعات المهجورة. لَمْ أعد أبتسم لمنْ سيبكينني حتّى يكتشفن أنّي كنتُ مجرّد إنسان مسكين.
كلّ ما تبقى ليس إلاّ مجرّد نظريات بالية عن العلاقات بين البشر. صيغ بالية، مقرفة حتّى قرّر هذا الكائن غسل قلبه من الأدران حين لم يهتم أحد لألمه. ربّما لمّا يرونه، سيكون قد فات الأوان ليُخبرهم" أحببتُكُمْ عدد أنفاسي لو كنتم تعلمون!!!"
سيكون قد فات أوان مشاهدة معركة مدمن مخدرات مع ظله وهو يسعى إلى الموت كشهيد.
سيكون قد فات أوان إحياء صمت أرواح حين أتقاطرُ في وحدتها مثلما تقطر حنفية لم يُحْكم غلقها.
سأرحلُ يومًا مطمئنّا مع هذا الطفل الذي يرفض أن يملك غُبارا في مقبرة الأحياء، ولم يردّد كلمات بالية مادام قلبه ينبض باسمه. وسواء جلستَ على عرش أو تحت صليب، تَعَلَّقْ بهذا الحب الذي يجعلك تتحمل ألم جسد مُسَمَّرٍ على بوابات مشهد يرفض العرض الأصلي.
سترحل من هذا العالم وحيدا كما جئت إليه. أُدْعُ رَبَّكَ في كل نَفَسٍ! فكل نَفَسٍ فرصة جديدة توهب لك لتنقذ نفسك، لتتذكّر الذي لا ينساك أبدًا. انتظَرَكَ في هيامك، ألهمك الفن في عزلتك، علّمك الحكمة في ضلالك. اعتكفْ في مَسْكَنِكَ ولو لألم! عَزِّ روحك التي ستفارق ذات يوم جسدا سَيُشَيَّعُ في جنازة متشرد لن يحضرها أحد. بعد أن تنعمتَ بالملذات وتعلّمتَ من المرارة، ستعود إلى التراب الذي خلقت منه. إنْسَ أن تجد غير ما هو موجود في هذه الحضارة المحتضرة، لأنك إذا اعتنقتَ وَهْمَكَ، فكأنك تسرق من حديقة حيوانات أُهملت زمن الحرب حيوانا حلمتَ بامتلاكه منذ طفولتك.
لا تكن مثل هذا المنحرف السخيف الذي يتلف كل ما يعترضه في طريقه من معلقات لأشخاص لا يعرفهم، فأي مجد سينال من هكذا فظاظة مجانيّة! لن تعرف لِمَ خُلقتَ إلاّ حين تعشق! اسجدْ أمام بابه! خَفِّف من معاناة إخوانك واعف عمّن حَسَدَكَ! وقل: ما أنا إلاّ ألم!"

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق