كان الجو ممطرا.. والرياح تعصف بقوة .. وبعيدا فوق قمة جبل مرتفع ..كانت تسكن سيدة غريبة عن هذه الربوع.. كوخا صغيرا.. أثثته بأبسط المرافق.. جعلت من بساطته سفينتها نحو الماضي... بعد أن كرهت الحاضر.. بما يحمل من صقيع المشاعر والمعاملات.. وبرد الخذلان... وكانت هذه السيدة.. تعشق الرسم... وتستوحي مواضيع رسومها.. من الطبيعة.. وتستعمل الوان الأرض لتضفي على إنجازاتها بعض الجمال.. البسيط...ذلك الجمال المحبب الى قلبها... جمالا ..كان يقرؤه الجدود .. ويتذوق طعمه الملوك...ويغوص في أعماقه العشاق... أيام كان الحب.. لا يُشترى بالدولار..
وقفت سيدتنا تتأمل سيول المياه الجارفة.. وهي تغسل الطريق الصغيرة الضيقة والمؤدية إلى القرية...الأقرب إليها...وسافرت بتفكيرها بعيدا....إلى سنوات خلت... اجمل سنوات عمرها.. التي عاشتها مع زوجها ..رجل عربي الملامح.. أمازيغي الطباع... عشق الحروف.. وعشقته... وكتب فيها اجمل رواياته... فقد كانت كما كان يلقّبها بعطر الحياة... الى درجة أن الجميع ظن أنه إسمها الحقيقي... وكان أيضا عطر حياتها وحبها الوحيد... الحب الذي علمها كيف تراقص النور... ساجدة.. شاكرة لعطايا الله وكرمه... وعلمها كيف تعشق الربيع وكيف تصنع من الياسمين طوقا تتزين به عوض الجواهر... أعادها وقع قطرات المطر على نافذتها إلى واقعها البارد... فأغمضت عيناها ..لتستحضر عطره... وابتسمت وهي تتذكر أنها ما زالت تحتفظ بما تبقى منه في قارورة تركها على فراشه .. في نفس اليوم الذي غادرها فيه... وسافر بالباخرة.. في رحلة عمل لم يعد منها أبدا... فقد انتهت الرحلة في أعماق المحيط... وسُجّل مع المفقودين... لكنها ما زالت تنتظر عودته ... تشعر أنه على قيد الحياة... وأنه سيعود ليمسك يدها.. ويتمشى معها على ضفاف البحر يوم تبلغ التسعين عاما من عمرها.. فقد وعدها بذلك في اخر عيد ميلاد لها وهو يضع قبلة على جبينها... نعم سيعود.. فالرجال لا تكذب ابدا... ووعد الحر دين... كررت لقلبها تلك الكلمات.. وهي تبتلع دموعا أصرت على أن تغسل وجنتيها.... وتفسد الوان حلمها الذي لم يرمي المنديل ولم يستسلم... لحقيقة يرفضها... حقيقة مرة مرارة خريف يداهمها وينذرها بإنتهاء الرحلة... استجمعت قواها .. وأخذت فرشاتها.. ورسمت وجهه على لوح السماء.. وكتبت تحته... سيعود.. فالرجال لا تكذب ابدا
بقلمي لمياء السبلاوي

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق