يا معشر الشعراء :إذا رأيتم-إبني-نائما في الصمت الأبدي..فلا تعكرّوا سكينته بالكلمات..
-أسكب دمعة سخيّة على جبينك الوضّاء،دمعة في لون اللؤلؤ،واكتم الصرخة المدوية كالرعد في كهوف الرّوح..وداعا يا مهحة الرّوح..-
البراعم الفتية-مثلك يا مهجة الروح:غسان..يولدون مصادفة في الزمن الخطأ،ويرحلون كومضة في الفجر،كنقطة دم،ثم يومضون في الليل كشهاب على عتبات البحر..كبدي وروحي التي تشظت منذ رحيلك وأنا أحاول مجاهدا تطويع اللغة،ووضعها في سياقها الموازي للصدمة.. للحدث الجلل.. إننّي مواجه بهذا الإستعصاء،بهذا الشلل الداخلي لقول الكلمات الموازية،أو المقاربة لرحيل القمر والدخول في المحاق..
ولكن الدّمع ينهمر نزيفا كلّما هبّت نسمة من مقبرة جاثمة على تلّة في الجنوب..
ماذا تعني كلمات أو مفردات: منكوب أو مفجوع أو مدمّى أو منكسر؟..
لا شيء سوى الفراغ الذي كنت تملأه فيما مضى.يتسع بك ويضاء بالبهاء الإنساني والغنى الروحي الحزين جراء فساد العالم وخرابه..
الزّمان الغض،المضاء بشموس النصر والتحدي..الزمان المفعم بإشراقات الآتي الجليل،ما قبل إدراك الخديعة، بغتة الصدمة وضربة القدر.. -
هذا أنا والدك-الذّي عضّه الدهر بنابه الأزرق المتوحّش يرثيك.
فرحة هي النوارس بمغادرتك عالم البشر إلى الماوراء حيث نهر الأبدية ودموع بني البشر أجمعين..أنت الآن في رحاب الله بمنأى عن عالم الغبار والقتلة وشذّاذ الآفاق،والتردّي إلى مسوخية ما قبل الحيوان.
هل كان الحمام -الحنوبي-هنا..في أرض تطاوين..يعبّر بهديله عن رغبته في اختطافك إلى الفضاءات النقية لتكون واحدا من-قبيلته-،بعيدا عن الأرض الموبوءة بالإنسان الذي تحوّل إلى وحش ينتشي بنهش الجثث،قاتل للحمام والبشر،معيدا سيرة أجداده القدامى منذ قابيل وهابيل حتى الآن؟
نائم هناك على التخوم الأبدية،وروحك تعلو في الضياء الأثيري،طائرا أو سمكة أو سحابة أو لحنا في موسيقى.لقد غادرت المهزلة الكونية للعبور البشري فوق سطح الأرض.في الزمان الحُلمي،كما في رؤيا سريالية،سأحملك على محفة من الريحان،بعد تطهيرك بمياه الوديان،من مصبات الأنهار والمنحدرات الصخرية بإتجاه البحر..
سيسألني العابرون :إلى أين؟
في السماء نجمة أهتدي بها.أعرفها.تشير دوما إلى -تطاوين-.أنت أشرت إليها ذات غسق وهي الآن فوق-مقبىرة على-تلة في الحنوب- تضيئها بلمعانها المميز عن بقية الكواكب.
وهي تشير كذلك إلى المرقد والمغيب فوق أفق البحر في أواخر المساءات.
أحملك نحوها لتغطيك وتحميك بنورها الأسطوري لتدخل في ذرّاتها وخلودها الضوئي..
قبل هذا الإحتفال الأخير سأطوف بك حول-حييك-الذي أحببت،معقل الفتيان أمثالك،،حيث يرثيك أهلك و-رفاق دربك وطفولتك الغضّة-وأمّك التي أرضعتك لبنا طازجا..بدمع حارق يحزّ شغاف القلب..
رفاق دربك المضيء يرتدون أبهى ثياب العيد..وأنت ترتدي-كفنا-أكثر بياضا من العدم..
يسألني العابرون أو أسأل نفسي:هل محاولة إستعادة نبض الحياة الماضية يخفّف من وطأة صدمة الموت؟..
لا أعرف شيئا..
حين يأتي المساء الرّباني سننلتئم تحت خيمة”تطاوينية”.نشعل النيران في فجوات الصخور اتقاء للرّيح،ونبدأ الإحتفال في لحظة بزوغ القمر فوق الهضاب الجنوبية..
أما أنتم -يا-معشر الشعراء:إذا رأيتم –إبني -مسجى فوق سرير الغمام فلا توقظوه،إسألوا الصاعقة التي شقّت الصخرة إلى نصفين لا يلتحمان.
إذا رأيتم-“االغصن”(كما يحلو لي أن أناديه)-نائما في الصمت الأبدي..فلا تعكرّوا سكينته بقصائد الرثاء..
اسكبوا دمعة سخيّة على جبينه الوضّاء ،دمعة في لون اللؤلؤ،واكتموا الصرخة المدوية كالرعد في كهوف الرّوح..
وداعا..يا مهجة الرّوح..غسان..
إنه الشتاء يا إبني..
إنها الرّيح..يا مهجة العمر..
ولا لوم علي حين أبكي إبني..
أو أحنّ إلى مهجة الليل فيك
أنا أُبكي بصمت في هدأة الليل..حين يهدهدني الشوق إليك..
أنا أبكي بصمت عينين عسليتين يغمرهما التراب
ولا عتاب..
ولا عقاب
لمن يبكي مثلي في مثل شتاء كهذا
لكَم تكرهني الحياة ولم أفعل لها شيئا
سوى ما يفعل بمن تاه في غياهب الصحراء السراب
وأحيانا أنا أبكي على أمي التي أنجبتني..
ذات شتاء يصهل في ليله الخراب..
أو أبحث في جيبي عن الدنيا..التي عذبتني..
أصرخ في هدأة الصمت: أماه..أستغيث..
ولا جواب..
محمد المحسن


ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق