التّرجمة الذاتية في الأدب العربي
و كتاب "الأيام" لطه حسين
فاتحة مدوّنتها . ريم العيساوي
في الأدب العربي القديم
التّرجمة الذّاتية العربية فنّ له جذوره الضّاربة في تاريخ الحضارة والثقافة العربية باعتبار موضوعه، وإن لم نجد في الأدب العربي القديم ما يعرف اليوم بالتّرجمة الذّاتية من حيث هي جنس أدبي، له خصائصه التي يعرف بها والتي تميّزه عن سائر الأجناس الأدبية الأخرى، فإنّه يتضمّن مؤلّفات تندرج ضمن التّراجم الذّاتية .و منذ الاحتكاك بالحضارة الغربية في العصر الحديث أخذت الكتابة في هذا الجنس في الازدهاروصارت على حدّ تعبيرأحمد أمين " فنّا ديمقراطيا " يمكن للعامّة من الأدباء كتابته.
وممّا لا شكّ فيه أن التّرجمة الذّاتية كانت فنّا مستحدثا عند العرب القدامى فاطلعوا على أثار غيرهم من الأمم الأجنبية وقلّدوها وخصوصا اليونانيين الذين ترجموا فلسفتهم، وأوضح مثال تأثّر به العرب الطبيب اليوناني الشهير " جالينوس" ( 130-200 م) ،فقد وضع كتابين عن حياته ومؤلّفاته الخاصّة ذكرهما حنين بن إسحاق ( ت 260 هـ) وقلّدهما في سيرته المشهورة و تأثّر به ،فكتب ترجمة ذاتية فلسفية يصوّر فيها موقفه وعمقه الفكري، ثم اتبعه ابن الهيثم ( ت 440 هـ) له مقالة فيما صنّفه من علوم وأسماء الكتب التي ألّفها وقدّم مقدّمة لتأريخ حياته ووصف تطوّره الروحي في ذلك الزمن بطريقة الغزالي إلا أنّ مجال الذّات فيها مجال ضيّق . وظهر في القرن الخامس الهجري في مجال التّرجمة ابن سينا( ت 428هـ) والطبيب علي بن رضوان المصري ( ت 460هـ)،وفي القرن السّادس الهجري ألّف عمارة بن أبي الحسن الحكمي ( 527هـ ) كتابه " النكت العصرية في أخبار الوزارة المصرية"، والغزالي (ت 505 هـ) في كتابه " المنقذ من الضلال" شرح ما عاناه في نفسه من التقليد و دوّن حياته الفكرية وأطوارها، وكتاب "الاعتبار" لأسامة بن منقذ ( 488/584 هـ) وهو أقدم ترجمة ذاتية بالمعنى الصحيح ،قصّ ما شاهده من وقائع إبّان العهد الصليبي حتى أنّه وصفه شوقي ضيف بأنّه : " مذكرات بديعة تصوّر الفروسية العربية وهو ترجمة كاملة ".وعمد عبد اللّطيف البغدادي (ت 629 هـ) في ترجمته بصيغة ضمير الغائب في كتاب " ذيل الروضتين" . وعلى يدي لسان الدّين بن الخطيب ( 776 هـ ) ظهرت أسمى صورة للتراجم وهو كتاب " الإحاطة في أخبار غرناطة".أما عبد الرحمن ابن خلدون ( ت808 هـ ) فقد كتب " التعريف بشخصه ورحلته غربا وشرقا "، ومحمد بن محمد الجزري ( ت833 هـ) كتب عن نفسه في كتابه " غاية النهاية في طبقات القرّاء" ، ومحمد بن عبد الرحمن السخاوي ( ت 902 هـ ) له كتابه" الضوء اللامع"، و شمس الدين بن طولون (ت 973 هـ) له كتاب "الفلك المشحون في أحوال محمد بن طولون" ،وعبد الوهاب الشعراني( ت 973هـ) له كتاب "لطائف المنن والأخلاق".
هذه النماذج من التراجم ذكرت على سبيل المثال وليست على سبيل الحصر وهي مجال واسع مازال في حاجة للبحث والدّرس . ومن الواضح أن هذه التّراجم لم توضع مستقلّة أصلا ولكنّها كانت أجزاء من مؤلّفات ولم يكن أصحابها يغوصون في أعماق ذواتهم، لذلك لم تستمرّ جنسا أدبيا بذاته بل يذيّل بها كتب أخرى من مواضيع متنوّعة، تدوّن لغاية شخصيّة.
وهذه التّراجم على كثرتها وتنوّعها لم تؤسّس فنّا أدبيا قائما بذاته ومستقلا، وهذا ما يؤكّد القول :إنّ أدب الترجمة الذاتية في الأدب العربي جنس أدبي مستحدث كالفنّ الروائي والمسرحي، ولم يكن مواصلة لأدب عربي قديم . وفسّر هذا التأخير بطبيعة الإنسان العربي والعقيدة التي تجعله يخجل من التحدّث عن نفسه وفكرة الاستسلام التي ترى أنّ الإنسان تابع للمقادير فتصغّر الذّات ولا يستطيع استقطابها في عمل أدبي، تلك التي يسمّيها إحسان عباس " الطبيعة الثوريّة القلقة الجيّاشة وهي ليست من المميّزات الواضحة في السّيرة الذّاتية في الأدب العربي " .
وإذا كان بعض الباحثين الغربيين يرى أنّ السّيرة الذّاتية فنّ نشأ في الغرب وفي أوروبا تحديدا ،وأنّ ما ظهر من سير لبعض الشرقيين فهو نتيجة للعدوى أو كما أشار " جوسدورف " قد جعلوا أتباعا لعقلية غير عقليتهم ،فإنّ هذا الرأي ينقضه الأوروبي " تيتز روكي " بقوله :" هذه النظرة للسّيرة الذّاتية بوصفها رمزا لثقافة غربية محدّدة ومعروفة بقيم إنسانية مسيحية حفّزت على تطوّر النّزعة الفردية ، هي نظرة تنمّ عن جهل بالأدب العربي وتوجّهات " جوسدورف " التي تستخفّ بالثقافات الأخرى بوجه عام ،إنّما تقدّم أيضا تداعيات عن إيديولوجيا كولونيالية .
وأهمّ ما يميّز السّيرة الذّاتية في الثقافة العربية فوضى المصطلح ، نجد تداخلا بين المصطلحات التي تكاد أن تكون مترادفة ، فالمذكّرات والذكريات والسّيرة الذّاتية والتّرجمة الذاتية كلها تستخدم في أفق دلالي متقارب .* لغة التهميش سيرة الذات المهمّشة - عبد العاطي إبراهيم هواري - جائزة الشارقة للإبداع العربي - الدورة 11 - 2007 - دائرة الثقافة والإعلام ص 35
في الأدب العربي الحديث
ومرّ على الأدب العربي قرون متعاقبة ولم تظهر ترجمة ذاتية تلفت النظر بسبب الجمود الفكري الذي أصاب الوطن العربي في عهد المماليك ، ومنذ بداية عصر النهضة وباتّصال الحضارة العربيّة بالحضارة الغربيّة والبعثات العلمية وازدهار الترجمة الذاتية في أوروبا ومع التيّار الرومنتيكي
في أواخر القرن الثامن عشر،وهو تيّار تأكّدت فيه النزعة الفردية أقبل الكتاّب على كتابة الترجمة الذّاتية يصفون فيها الذّات فاستقامت جنسا أدبيا قائما بذاته، له خصائصه واتّجاهاته ومشكلاته ،واطّلع الأدباء العرب المحدثون عليه كما أكّد أدب الرحلات في الغرب الجانب الذّاتي في الإنسان العربيّ مثل كتاب الشّدياق ( 1805 م– 1887 م ) " السّاق على السّاق "صوّر حياته ومغامرات طفولته ومشاهداته في رحلاته وخبراته في دنيا المرأة على نحو صريح. وكتاب " الخطط التوفيقية الجديدة" لعلي مبارك ( 1824م– 1893 م ) أفرد لحياته ستّين صفحة وترجم فيه أعلام البلاد واصفا تعلّمه بمصر وفرنسا ووظائفه الحكوميّة ، كذلك محمّد عبده ( 1849 – 1905 م) دوّن ترجمته الذّاتية ومحمّد كرد علي ( 1876 – 1954 م) كتب ترجمته الذّاتية في نهاية الجزء السّادس ثم كتاب "خطط الشام " سنة 1925م وله كتاب "مذكّرات" وكلّ هذه التراجم تصوّر حقيقة الصّدام بين الشرق والغرب وتصوّر مراحل البحث عن الشخصيّة العربيّة، وهي الإرهاصات الأولى نحو كتابة الترجمة الذاتية والفنيّة الحديثة وتعنى بالحقيقة الواقعة أكثر من الحقيقة الشخصيّة .
وكتب التّراجم الذّاتية القديمة متأثّرة بالمثالية الخلقية، فالتزمت بالصّمت عن ذكر العيوب الشخصيّة . ويرجع هذا إلى طبيعة الشرقيين . ولعلّ أهمّ العوامل المساهمة في نشأة التّرجمة الذّاتية هو الإحساس بقيمة الذاّت أو الإحساس بالغربة ، وخصوصا أنّ أصحابها ينتمون إلى الطبقة الوسطى وعاشوا في بيئة يتنازعها طرفان متناقضان هما الماضي وما فيه من مظاهر تخلّف وعادات وتقاليد مغلقة ومتحجّرة وواقع جديد تفرضه الحضارة الحديثة، وأدّى هذا إلى الإحساس بالتمزّق بين واقع حضارتهم ومجتمعهم وبين ثقافتين واحدة تقليدية وثانية حديثة.
وفي القرن التاسع عشر خطت الترجمة الذاتية خطوات شاسعة إلى الأمام فإذا هي في مجموعها سجلّ للحياة الفكرية والروحية والأدبية والاجتماعية والسياسية لأصحابها، وفيما كتبوا تنعكس تيّارات فكرية ...منها ما هو نابع من التراث العربي الإسلامي ومن طبيعة الواقع العربي ، ومنها ما هو وافد من الغرب حين اشتدّت علاقته بالمشرق العربي .
ومن ثم ّفإنّ التراجم الذاتية في هذا القرن تعكس على حدّ تعبير يحيي إبراهيم عبد الدايم " أزمة الإنسان العربي "من جهة وأزمة " الفكر العربي المعاصر " من جهة ثانية " * الترجمة الذاتية في الأدب العربي الحديث - كتاب سبعون لميخائيل نعيمة نموذجا - فوزية الصفار الزاوق - تقديم منجي الشملي - مراجعة محمد صالح بن عمر - مطبعة الوفاء تونس 1999 ص 21.
وتختلف التّرجمة الذاّتية الحديثة عن سابقتها بالخروج على الأفكار السّائدة في المجتمع العربي ، خرج كتّابها عن السّائد وتخلّصوا من الأفكار الجامدة فأفصحوا عن ذواتهم في صدق وصراحة لدرجة أن بعضهم بلغ من حرصه حدّ التزام الصراحة بالعيوب والنزوات الشخصيّة ،لكنّهم لم يبلغوا فيها حدّ عري النفس والمكاشفة كالتّراجم الذّاتية الغربية مثل اعترافات "روسو" و"أندري جيد" ، لكونهم اقتدوا بالتّراث حتى أتت تراجمهم خاضعة لطبيعة الروح العربية التي لا تميل إلى التعرية والى الصّراحة المكشوفة. خرج البعض عن السّائد الموروث والاستفادة من الأدب الغربي ومحاولتهم الحرص على المفهوم الحديث للتّرجمة الذّاتية وبصورة عامة فإنّ الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية التي حدثت في القرن العشرين ساعدت على بلورة الشخصيّة العربيّة في الأدب الحديث ،كما ساعدت هذه الظروف على ظهور الشعور بالحاجة إلى الحريّة الفردية والاستقلال الذّاتي ثم الحيرة والتناقض والغربة .
إنّ دوافع التّرجمة الذّاتية في الأدب العربي نابعة من الرغبة في ضبط موقف ذاتي في الحياة مع التخفيف من الثّورة والانفعال ،ثم لا ننسى ما طرأ على المجتمع العربي الحديث من تغيير بعد حملة نابليون على مصر .
كتاب "الأيام" لطه حسين وفاتحة مدوّنة التّرجمة الذّاتية العربيّة الحديثة
بدأ طه حسين نشر الجزء الأوّل من كتاب الأيّام في مجلّة "الهلال" في ديسمبر 1926 م حتى شهر يوليو 1927م، هذه المقالات نشرها في كتاب جامع سنة 1929م ،صوّر حياته في القرية وكُّتابها حتى سنّ الثّالثة عشرة ومعاناته وألوان الصّعاب والحرمان ووصف حياته خلال أعوام الدّراسة بالأزهر سنة 1955 م .وفي كتاب"الأيام" ترجم طه حسين حياته في الجامعة المصرية والجامعة الفرنسية "بمونبليي" و"باريس " ،وهذه الترجمة صورة واعية للصراع بين الإنسان والواقع مع نظرة ساخرة لجملة من الاعتقادات .
ويذكر أنيس المقدسي بعض خصائص هذا الكتاب من الناحية الأسلوبية والتي منها عذوبة الحديث ، يقول :" فألفاظه وعباراته على نصاعتها تمتاز بنعومة ذات رواء وروعة تصوير للوقائع والأحوال والخوالج والأثيرات ، وفيه طلاوة التهكّم في لغة الاستهزاء والتحقير على أنّه في الفنّ الأدبي، يعني الفكه أو الهجاء المبطن بالدعاء " وطه حسين في "الأيّام" حسب بعض الدّارسين لم يعلن الميثاق السّير ذاتي واستعمل ضمير الغائب لكنّنا نجد في الجزء الأخير بعض الدلائل التي يمكن اعتبارها ميثاقا ذاتيا،وهو خطاب طه حسين لابنته ويذكر أن لاشيء في كتاب "الأيّام "من الخيال ولاشيء يعدّ قالبا روائيا بل هو وثيقة وضعها المؤلّف عن نفسه ونشر الجزء الثّاني سنة 1939 م صوّر فيه حياته خلال الأعوام الدّراسية بالأزهر ونماذج عديدة من شخصيات الطلاب في الربع وشخصيات شيوخه بالأزهر ، ونلحق بهذين الجزأين كتاب "أديب" الذي يعتبره صاحبه تكملة لكتاب " الأيام "وقد صوّر فيه حياته أيّام دراسته بالجامعة الأهلية في مصر والجامعة الفرنسية بباريس .
ويذكر أنيس المقدسي بعض خصائص هذا الكتاب من الناحية الأسلوبية والتي منها عذوبة الحديث ، يقول :" فألفاظه وعباراته على نصاعتها تمتاز بنعومة ذات رواء وروعة تصوير للوقائع والأحوال والخوالج والأثيرات ، وفيه طلاوة التهكّم في لغة الاستهزاء والتحقير على أنّه في الفنّ الأدبي، يعني الفكه أو الهجاء المبطن بالدعاء " وطه حسين في "الأيّام" حسب بعض الدّارسين لم يعلن الميثاق السّير ذاتي واستعمل ضمير الغائب لكنّنا نجد في الجزء الأخير بعض الدلائل التي يمكن اعتبارها ميثاقا ذاتيا،وهو خطاب طه حسين لابنته ويذكر أن لاشيء في كتاب "الأيّام "من الخيال ولاشيء يعدّ قالبا روائيا بل هو وثيقة وضعها المؤلّف عن نفسه ونشر الجزء الثّاني سنة 1939 م صوّر فيه حياته خلال الأعوام الدّراسية بالأزهر ونماذج عديدة من شخصيات الطلاب في الربع وشخصيات شيوخه بالأزهر ، ونلحق بهذين الجزأين كتاب "أديب" الذي يعتبره صاحبه تكملة لكتاب " الأيام "وقد صوّر فيه حياته أيّام دراسته بالجامعة الأهلية في مصر والجامعة الفرنسية بباريس .
أما الجزء الثالث فقد نشر مسلسلا في مجلّة آخر ساعة منذ 1955م في عشرين فصلا ثمّ جمعها في كتاب "مذكّرات طه حسين " . و في سنة 1967م صدر هذا الكتاب في بيروت في طبعته الأولى وظهر بعد ذلك بالقاهرة سنة 1972 م عن دار المعارف باسم"الأيام" الجزء الثالث .
وقد يتساءل البعض هل الأيّام ترجمة ذاتية أم رواية لترجمة ذاتية ذلك لاستعماله ضمير الغائب والأسلوب القصصي في تصوير الوقائع ثم آخر ما أورده "سيمون فرنسيس" في متابعة ملامح الأدب العربي المعاصر وحواره مع طه حسين حول فنّه الروائي يؤكّد فيه أن "الأيّام" وثيقة وضعها عن نفسه لا رواية ، استلهم أحداثها من بعض أطوار حياته، كما تحتوي مقدّمة الجزء الثّالث ميثاقا للتّرجمة الذّاتية بطريقة "براي"نشره محمد حسن الزيّات ،قصّ فيه قصّة تأليف الكتاب وهذا الأمر يسوّغ أن نعتبر كتاب "الأيّام "لطه حسين هو فاتحة مدوّنة التّرجمة الذّاتية العربية الحديثة بمفهومها الفنيّ، ومن هنا نعتبر نسبة طه حسين إلى هذا الفنّ في الأدب العربي كنسبة "جان جاك روسو" إليه في الأدب الغربي ولعلّ هذه الريادة هي من جملة المسوّغات التي جعلتنا نتوقّف عنده ولو بصورة موجزة وقد ذهب النقّاد إلى أن طه حسين لم يكتب ميثاقا للتّرجمة الذاتية لقصة حياته الأيّام ،والحقّ أنّ ميثاقه للتّرجمة الذاتية أنصع ميثاق في الأدب العربي وقد وضعه على مرحلتين في نهاية الجزء الأول مخاطبا ابنته أمينة وفي نهاية الجزء الثاني مخاطبا ابنه مؤنس .
إنّ نظرية الميثاق تمتدّ إلى إرادة كاتب التّرجمة الذّاتية وتحوّل إنجازه من ميثاق يفهم بأن يكون صادقا إلى ميثاق يفهم بأنّه يقوم بدور قاصّ للحقيقة ويمكن تقسيم مؤلّفات التّرجمة الذّاتية الحديثة إلى قسمين :
1- ما يتضمّن تاريخ نشره .
2- ما لم نتوصّل إلى تحديد تاريخ نشره أوّل مرّة .
ويندرج ضمن القسم الأوّل ما يتضمّن تاريخ نشره: كتاب " الأيام" لطه حسين وهو فاتحة هذا الجنس الأدبي العربيّ في العصر الحديث والكتاب الثّاني هو" زهرة العمر " لتوفيق الحكيم صدر سنة 1943 م وجاء في أسلوب رسائل، كان الحكيم قد أرسلها إلى صديق له يدعى"أندري" عندما كان مقيما في فرنسا وبعد عودته إلى مصر، يلي هذا المؤلّف كتاب سيد قطب "طفل من القرية" الذي أهداه لطه حسين ، ويعود تاريخ الإهداء إلى سنة 1945 م ،تلا هذا الكتاب مؤلّف"تربية سلامة موسى" سنة 1947 م، متّجها فيه كاتبه اتّجاها مغايرا لطه حسين شكلا ومضمونا ،فقد استعار عنوان الكتاب من عنوان كتاب " هنري أدامز" "تربية هنري أدامز" وتأثّر به في نظرته للوجود.
وفي منتصف هذا القرن 1950 م صدر المؤلّف الخامس لأحمد أمين وهو كتاب " حياتي " جاء فيه ميثاق للتّرجمة الذّاتية في مقدّمته واعتبر أوّل ميثاق للتّرجمة الذّاتية في الأدب العربيّ رغم حضوره نسبيّا في الآثار السّابقة .
وفي سنة 1959 م صدر كتاب "سبعون" لميخائيل نعيمة بجزئية، وصدر الجزء الثالث منه سنة 1960 م ،وما يميّز ميثاق التّرجمة الذّاتية في هذا المؤلّف أنّه لم ينحصر في المقدّمة ، بل تخلّل الأجزاء الثلاثة، ثمّ ظهر كتاب "إبراهيم الكاتب" لإبراهيم عبد القادر المازني سنة 1960 م و"قصّة حياة" سنة 1961 م وتلاهما" سجن العمر" لتوفيق الحكيم سنة 1964 م وهو كتاب وثيق الصلة بكتاب "زهرة العمر" الذي نشره 1943 م ، ونجد بين هذين الكتابين صلة واضحة هي التي يشير إليها في قوله :" إنّ زهرة عمرنا الفكر وسجن عمرنا الطبع " * زهرة العمر ص 289 .
وكتاب " زهرة العمر" يتضمّن ستا وأربعين رسالة ، كتبها توفيق الحكيم إلى صديقه " أندري " Andre وهو الذي تحدّث عنه في "عصفور من الشرق " وقد ترجمها توفيق الحكيم إلى العربية ،دون أن يذكر تاريخ إنشائها أو إرسالها إلى صديقه .
أما " سجن العمر " فهو سرد لمرحلة من حياته تقف عند سفر الكاتب إلى باريس .
* الترجمة الذاتية في الأدب العربي الحديث - كتاب سبعون لميخائيل نعيمة نموذجا - فوزية الصفار الزاوق - تقديم منجي الشملي - مراجعة محمد صالح بن عمر - مطبعة الوفاء تونس 1999 ص 24
والمهمّ أنّ التّرجمة الذّاتية الأولى لتوفيق الحكيم تختلف عمّا نعرفه من الترجمات الذّاتية في الأدب العربي الحديث ، فالدّارس ل " سجن العمر"يتبيّن أنّ الحكيم قصد من عنوان كتابه كل ما يرثه الإنسان من بيئته ولا يختاره اختيارا : فتحدّث بإسهاب عن أسرته ووالديه مركّزا اهتمامه على وصف طباعهما وثقافتهما ومدى تأثيرهما فيه،ولم يصفهما وصفا خَلقيّا أو يكاد .
ثم صدر كتاب "أنا" لعبّاس محمود العقّاد بعد وفاته سنة 1964 م وكتابه " حياة قلم " أوّل ما نشره منه فصل بعنوان " بعد الأربعين " بمجلة " الهلال " في عددها الصادر في أول يونيو 1933 م، ثم نشر بعد عشر سنوات فصلا ثانيا عنوانه "من وحي الخمسين" بمجلّة " الهلال "في عددها الصّادر بتاريخ 1يونيو 1943م، وكتاب " حياة قلم " توأم كتاب "أنا " تحدّث فيه العقاد عن مصر انطلاقا من بعض المذكّرات ، كما أشار فيه إلى جهاد صاحب هذا القلم ،على مدى عشرين سنة ، وعرّج فيه على ما وقع له من أزمات اضطرّته للانقطاع عن الكتابة سنة 1919 م وهي سنة ذات أهميّة تاريخيّة إذ فيها انتهت الحرب العالمية الأولى وفيها اندلعت الثورة التحريرية الكبرى بمصر .
ثم كتاب "قصّة نفس" لزكي نجيب محمود سنة 1965 م ،سلك فيه منحى رمزيا هو أقرب إلى التّرجمة الذّاتية الذهنية ، وفي سنة 1969م صدر كتاب "سيرة ذاتية" للأمير شكيب أرسلان ثم تلاه كتاب "بقايا صور"لحنّا مينا سنة 1975 م .
وفي سنة 1967 م افتتحت الدكتورة عائشة عبد الرحمن بنت الشاطئ التّرجمة الذّاتية النسائية في الأدب العربي بكتابها "على الجسر" رغم أنّ هناك كاتبات ينتمين لهذا الأدب الذّاتي سابقا عنها تاريخيّا و منهنّ سالمة بنت سعيد كاتبة "مذكرات أميرة عربية" باللغة الألمانية ، وترجمت للغة العربية ترجمتين ، ولنا عودة لهذا الكتاب لما توفرت فيه من مقومات فنية وقيمة توثيقية هامة لإبداع المرأة العربية بكل اللغات وأهميته في أدب السرد الذاتي.
ومن أدب سيرة المرأة العربي كتاب "أيّام من حياتي " لزينب الغزالي عن دار الشّرق 1979م و"مذكّرات طبيبة" لنوال السّعداوي عن دار الآداب 1980 ،وكتاب "حملة تفتيش" للدكتورة لطيفة الزيات 1992 م وكتاب " رحلة جبلية رحلة صعبة "
و" الرحلة الأصعب " للشاعرة فدوى طوقان .هذه نماذج على سبيل الذكر لا الحصر .
وما نلاحظه أن نسق هذا الجنس تصارع خلال النّصف الثاني من هذا القرن مما يدلّ على استقرار تأليف التّرجمة الذّاتية ورسوخه فنّا قائما بذاته.
وفي القسم المرجح تاريخه :يأتي كتاب يحيى حقّي "خلّيها على الله " ويرجّح صدوره إلى سنة 1960 م وكتاب "حياة قلم " لعبّاس محمود العقّاد نشر الفصل الأوّل منه سنة 1975 م وكتاب "هواجس في التجربة الروائية" و"كيف حملت القلم" لحنا مينا وكتاب "في الطفولة" لعبد المجيد بن جلون.
ومن الكتب التي لم نظفر منها إلا بالعنوان كتاب "معي" لشوقي ضيف هذه المدوّنة ليست نهائية فهي في حاجة إلى التعديل والضبط ولكنّها عيّنة لارتياد الأدباء هذا الجنس الأدبي .
"وإذا عثرنا على بذور الترجمة في الأدب العربي القديم وفي الأدب الحديث فإنّ هذا لا ينفي أنّها جنس مستورد من الغرب ، غريب عن التقاليد الأدبية العربية وما عثرنا عليه يلتقي مع الترجمة الذاتية في مفهومها العام لا الدقيق .* المرجع السابق ص 25 .
وخلاصة القول إنّ الكتابات الذّاتية العربية القديمة ، قد شكّلت القاعدة الإبداعية التي نهضت عليها السّيرة الذّاتية العربيّة الحديثة . وبذلك فإنّ هذه الكتابات هي الّتي مهّدت لاستساغة الأدب الذّاتي الأوروبي في القرن العشرين (..) وما نريد تأكيده ..هو أنّ تحقّق جنس السّيرة الذّاتية في العصر الحديث لم يكن عودا على بدء كما توهّم جلّ الدارسين ، وإنّما كان تعبيرا عن تطوّر مرحلي طبيعي ارتقت إليه الكتابات الذّاتية الحديثة ، بفعل امتصاصها لأشكال كتابيّة قديمة وتحويلها إلى أغراض مستحدثة لها سماتها الأجناسية المفارقة "* مقومات السيرة الذاتية في الأدب العربي الحديث - د- جليلة طريطر - مركز النشر الجامعي - مؤسّسة سعيدان للنشر ط 2- 2009 م - 406.

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق